الآن.. وبتعمد مقصود.. نكتب فى أواخر شهر أكتوبر عن نصر أكتوبر، عقب انتهاء احتفالاته، لا لنستعراض مجددا قصة النصر الذى حقق المستحيل، وأعاد الكرامة للمصريين، وقدم الجديد للعلم العسكري فى العالم.. لن نكتب عن كل ذلك، فهو حقيقة واقعة، وأنت منذ سنوات طويلة تعرفه. ولكن.. اطلاقا من كون حرب أكتوبر هى الإنجاز الأعظم فى تاريخنا الحديث، دعنا نبحث بهدوء فى فكرة (الإنجاز) بشكل عام عبر تاريخنا.. كيف نصل إليه؟.. وكيف نتعامل معه عندما نصل؟.. دعنا نتساءل بعقل.. هل عرفت الأجيال الدرس بالفعل مثلما أوصتنا كلمات الأستاذ الكبير مصطفى الضمرانى بألحان المبدع العظيم عمر خيرت؛ "ما ينتهيش الدرس فى أكتوبر.. الدرس لازم تعرفه الأجيال"؟. السؤال مشروع بل إجبارى.. لذا دعنا نحاول استلهام الدروس والعبر، عبر العودة إلى ما قبل 73 بسنوات، وما تلاها من سنوات، فى إطلالة سريعة على التاريخ بعين طائر، ينظر للأمام، حاملا المحبة والاحترام، للشعب والحكام، فالكل بشر، والصواب والخطأ فى طبع البشر قدر. جاءت الخمسينيات لتحمل حلما كبيرا للبسطاء، سرعان ما أضحى حقيقة واقعة، و(إنجازا) واضحا، تمثل فى العدالة الاجتماعية والإصلاح الزراعى ومجانية التعليم. طار البسطاء من المصريين فرحا بقدرتهم على تعليم أبنائهم، وتغنى الفلاحون بعقود ملكية الأرض التى تسلموها.. "خمس فدادين نزرعهم فلفل وشطيطة".. كان ذلك تحولا مهما فى التركيبة الاجتماعية التى كانت فيما سبق قائمة على الإقطاع والفوارق الطبقية.. كان إنجازا كبيرا، انضم له الشعب بعد عودة الأمل إليه، وتغنى كتّاب وفنانون بالحلم.. لكن درجات وعى الشعوب هى الحاكمة.. وعندنا، لابد دوما أن يكون للإنجاز بطل واحد، ورمز واحد. الصواب والخطأ فى طبع البشر قدر. لكن فى ظل الصوت الواحد لا يكون من السهل اكتشاف الأخطاء لتداركها.. كبر الشعور بالحلم كثيرا. كبر بما يفوق القدرات، حتى بلغنا لحظة الحقيقة.. 5 يونيو 67.. فى مرابضها دون تحليق أو اشتباك قصفت الطائرات!. فى قلب مرارة الانكسار تسكن إرادة الانتصار، لكن بشروط.. العمل الهادئ الجاد المنظم، المصر برغم أصعب الظروف على خوض التحديات.. لم يكن التحدى وحده هو قدرة الجيش الاسرائيلى التى لا تقهر، بل كانت الظروف الداخلية أيضا ضاغطة؛ غضب شعبى إزاء حالة اللاسلم واللاحرب، ومظاهرات فى الجامعات.. "حنحارب حنحارب".. ولأن الأمر يتعلق بحرب؛ السرّية عمادها، كان لابد للقيادة من التحمل والصبر والصمت. لكن داخل المنظومة المحاربة ذاتها؛ القوات المسلحة، كان العمل يجرى بكل تناغم وتكامل، مع الاعتداد بكل رأى يمكن أن يفيد، حتى أن فكرة خراطيم المياه لإزالة الساتر الترابى لم يكن صاحبها سوى ضابط صغير، سرعان ما تم تصعيد فكرته للقيادة للاستفادة منها.. وقد كان. السادس من أكتوبر 73.. حانت لحظة الحقيقة.. وتحقق الإنجاز الكبير.. فى الوقت المناسب قهر الجيش المستحيل، وانضم له الشعب بعد عودة الأمل إليه، فصبر على سوء الأوضاع المعيشية والنقص الكبير فى الخدمات والسلع الاستراتيجية، لم يتذمر الناس أو يشكوا، بل ساد التحمل والصبر والصمت، لأن الحلم قد لاح وهاهو الإنجاز يكتمل.. لكن درجات وعى الشعوب هى الحاكمة.. وعندنا، لابد دوما أن يكون للإنجاز بطل واحد، ورمز واحد. الصواب والخطأ فى طبع البشر قدر. لكن فى ظل الصوت الواحد لا يكون من السهل اكتشاف الأخطاء لتداركها.. كبر الشعور بالإنجاز كثيرا، حتى وصلنا بعد 8 سنوات فقط إلى لحظة جديدة.. جاءت اعتقالات سبتمبر 81 الشهيرة، وبعدها بشهر وقع (حادث المنصة) الغادر، على يد قوى اعتادت الغدر، لكن الدولة كانت قد رأت إتاحة الفرصة لها لمواجهة قوى أخرى، إلا أنها عادت إلى طبعها. جاءت الثمانينيات حاملة الأمل فى بداية جديدة.. تم الإفراج عن جميع معتقلى سبتمبر من الكتّاب وأصحاب الرأى. وكان عنوان الخطاب هو أن "الصدق أقصر الطرق للإقناع". بدأت الدولة المنهكة بفعل سنوات الحرب معركتها الجديدة للبناء والتنمية، وإصلاح البنية التحتية المتهالكة.. كان الأصل هو أن "الجمعية مافيهاش فراخ والتليفون من غير حرارة"، وما دون ذلك هو الاستثناء. ولكن.. بدأ طريق البناء، وانضم له الشعب بعد عودة الأمل إليه. تسارعت وتيرة التعمير؛ مدن وطرق؛ مزارع ومصانع؛ خدمات واتصالات. ثم جاءت معركة الإرهاب الأسود، لتستهدف الجميع؛ شعبا ومسئولين، لكن الوطن - بأكمله- خاضها، تحمل وصبر حتى انتصر.. وأصبح الاستقرار هو (إنجاز) مصر الجديد. ولكن... أنت تعرف ما بقى.. درجة وعى الشعب هى الحاكمة.. للإنجاز بطل واحد.. أنت تعرف ما جرى.. وما أوصلنا إلى الثورة.. فى الخامس والعشرين من يناير. أخيرا.. يمكنك الآن أن تفكر بنفسك، وتستخرج من هذا المسار التاريخى ما تشاء من الدروس، أو الأحرى «الدرس اللي لازم تعرفه الأجيال». والدرس هنا إجبارى، لا يمكن إلغاؤه وإلا فسد المنهج، خاصة أن باقى كلمات الأغنية (الوصية) قد أخبرتنا بأن «اللي صنع نصره يصنع أمان عصره»، لذا فإن ما قد نقوله فى الختام فقط.. هو أن أحلام الشعوب ما أحلاها، إذا ما طوّرنا وعينا وطورناها، وإذا ما قرأنا دروس التاريخ ووعيناها.. فإذا كان الصواب والخطأ فى طبع البشر قدر، فإن تصويب الأخطاء أيضا هو واجب وأمر. لمزيد من مقالات محمد شعير