بعد خمس سنوات، سيكون قد مضى خمسون عاما على وفاة جمال عبدالناصر. ومن الطبيعى، بعد هذا الوقت الطويل - نسبيا - أن تكون الحقبة من تاريخ مصر التى كان هو محورها الرئيسى، موضوعا لبحث وتقييم المؤرخين والمفكرين. وأذكر أنه فى سنة 1969 كان قد مضى على قيام ثورة 19، خمسون عاما، وتذكر هذه المناسبة الجليلة الأستاذان أحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل، فى المصور والأهرام واحتفلا بها كل بطريقته. وبدت لنا تلك الثورة آنذاك-نحن الشباب- أمرا بعيدا موغلا فى القدم، رغم أن بعض الذين خاضوا نيرانها، كانوا لا يزالون أحياء يرزقون.. وهو نفس الحال اليوم مع ثورة عبدالناصر، فهى مازالت قريبة من الأذهان والمشاعر، وبعيدة إلى الحد التى يمكن تناولها وتقييمها بحرية أكبر وموضوعية أدق وتقدير لا يحكمه الهوى أو الخوف.. ومنذ دان الأمر لنظام يوليو، وأمسك بأعنة السلطة، فإن الحديث عن بنيته وتكوينه ومراكز القوى داخله، لا يجرى بغير التأييد والتهليل والتبشير، ولكن إعادة النظر فى الجذور، ترافق مع وقع هزيمة 1967، الصاعقة التى كانت ضربة دارت لها الرءوس، ودفعت النخبة إلى البحث عن أسباب الهزيمة بعمق، والتفتيش فى أسس النظام، الذى ظل مطلق السراح فى القيادة ورسم الخطط وإنجاز المهام، منذ فجر 23 يوليو. وبعد وفاة مؤسس النظام فى 1970، اتخذت محاولات المراجعة والتحليل، منحى أكثر مواجهة وفتحا لكثير من الملفات.. وشاركت فى البداية جوقة من الشامتين والحاقدين والراغبين فى تصفية الحسابات، والطامحين إلى تحقيق مكاسب صغيرة.. ولكن الصوت الذى يتحدث بدافع وطنى، وبفرض التقييم المنصف، الذى يصب مياهه فى مجرى التقدم والنهوض الذى ينشده الوطن، كان يرتفع شيئا فشيئا، ويجد له آذانا صاغية.. وفرض نفسه ووجوده على المكتبة السياسية والتاريخية. وربما يمكن تلمس المحاولات الأولى، فى كتاب توفيق الحكيم «عودة الوعى» ومقالات فؤاد زكريا الثلاث «عبدالناصر واليسار المصرى» وكتاب لويس عوض «أخطاء الناصرية السبعة».. وإن كان الطريق لا يزال طويلا، للوصول إلى قواسم مشتركة.. وسيظل هذا الملف المهم من تاريخنا، مفتوحا، لأجيال قادمة. ومن الإسهامات المحترمة فى هذا المجال، كتاب صدر منذ ثلاث سنوات بعنوان «نداء الشعب» تاريخ نقدى للأيديولوجيا الناصرية للدكتور شريف يونس، وهو من مؤرخى الجيل الأحدث فى المدرسة التاريخية المصرية. والكتاب الكبير - 750 صفحة - هو فى الأصل رسالة دكتوراه تقدم بها إلى جامعة حلوان فى 9 أكتوبر 2004.. ولكن وزنها أكبر من كونها رسالة جامعية.. وتبعها بكتاب آخر فى 2005 بعنوان «الزحف المقدس، مظاهرات التنحى وتشكل عبادة ناصر» يساوى رسالة أخرى رغم أنه فى مائتى صفحة.. ولن يخفى على القارئ، منذ السطور الأولى، أن الباحث يدين الناصرية ويوجه لها اتهامات خطيرة، وفى الصفحة الأولى، يضع فى وسطها كلمة بريخت «تعس ذلك الشعب الذى يحتاج إلى زعيم». والتهمة الأولى فى عريضته - أو بحثه - هى تصميم الحكم الجديد، الذى جاء على أنقاض الحكم الملكى والاستعمار البريطانى، على اقتلاع كل القوى السياسية، والمؤسسات المستقلة، ومنابر الرأى العام، وإخلاء الساحة السياسية للقوة الوافدة، التى كان يتغير عنوانها، فى كل مرحلة، من الضباط الأحرار، إلى مجلس القيادة، إلى مجلس قيادة الثورة، إلى مجموعة العشرة - الباقون من مجلس الثورة - إلى الزعيم وحده يحكم منفردا. وحاول الباحث بجهد وضمير، أن يستخلص ملامح الأيديولوجيا الناصرية، معتمدا على كم هائل من الخطب، والمقالات، والتصريحات ووثائق الثورة والاحتفالات والمواكب والشهادات.. وهو يقدم للمشهد الأيديولوجى كما يرسمه، بافتتاحية تتمثل فى المفاجأة التى هزت الوادى، مفاجأة مجموعة من الضباط، يطيحون بالوضع القائم، فى ساعات بادئين بالملك.. وظل الوضع يلفه الغموض، تبين فيما بعد أنه غموض متعمد، فلم تعرف أسماء قادة المجموعة وصورهم إلا بعد ثلاثة شهور. ثم تبين أنهم مجموعة صغيرة من ضباط الجيش، من الرتب المتوسطة «8% من مجموع ضباط الجيش والذين شاركوا فى ليلة الثورة 3%» مستقلون عن كل القوى السياسية، لا يملكون تصورا سياسيا واضحا، غير آراء إصلاحية وطنية عامة، ويكرهون التعددية الحزبية التى فرقت البلد، ولا يثقون فى الديمقراطية البرلمانية..ولذلك كان من أول قراراتهم إلغاء الأحزاب وإسقاط الدستور، وإعلان فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات، تظل خلالها السلطة التشريعية والتنفيذية فى يدهم.. ثم يشرح ذلك، بأن هذه السمات ظلت هى الحاكمة فيما بعد فالغموض ظل طابع الحكم وسرية العمل هى مسلكه، والفراغ السياسى الذى نشروا أولويته، حرسوه بحسم وتصميم بالقوة. ويعلق على المقال الشهير لإحسان عبدالقدوس، الجمعية السرية التى تحكم مصر بأنه ليست الجمعية السرية، التى تحكم ولكن مبدأ السرية نفسه. أى أن روح الانقلاب العسكرى، التى كانت الوصف الدقيق لحركتهم فى بدايتها، ظلت سارية ولم تمت أبدا.. وهو لم يتوقف كثيرا عندما توافق عليه المؤرخون، فى توصيف طبيعة نظام 23 يوليو، إنه انقلاب عسكرى تحول إلى ثورة شعبية أيدها الشعب.. مؤكدا أن خط الانقلاب العسكرى، ظل الغالب والأبرز، معتمدا على كثير من الأدلة والوقائع. الانتقال الدائم وتقودنا الافتتاحية العامة إلى مبادئ الأيديولوجيا الناصرية التى تؤسس لشرعيتها. وأول هذه المبادئ هو ما يسميه الشرعية الانتقالية حيث أعلن الضباط، فترة انتقالية، يحكمون خلالها بأنفسهم، تمهيدا لتحقيق الديمقراطية السليمة.. وفى الواقع، فإن مفهوم الانتقال، أصبح وضعا دائما، يقوم على الحكم بقانون الطوارئ، الذى لم يرفع إلا لوقت قليل، وعلى تصفية الديمقراطية، والمحافظة على الفراغ السياسى. والمحور الذى ترتكز عليه الشرعية الانتقالية، هو القمع والتطهير، أى الانقلاب، والوصاية على الشعب، والجهاز الذى يعتمدون عليه هو المؤسسات الأمنية.. ثم يتابع مبلورا مبدأ آخر يسميه شرعية الإنجاز: ونجاحات ثورة يوليو ومنجزاتها، هى أكبر مصادر شرعيتها واستمرارها.. وهو يرى أكثر من مطعن فى قائمة الإنجازات الكثيرة، مطاعن تخص إنجازًا بعينه أو مطعنا عاما. فهو يرى «أنه كان ثمة نظام كلى الجبروت وسكان لا حول لهم، ومجموعة مصلحين معجبين بأفكارهم الخاصة، لا بوصفها مناسبة للناس أو يمكن أن يقبلوها، ولا بوصفها مطروحة عليهم للموافقة أو الرفض أو المناقشة والتعديل، ولكن بوصفها أداة تنوير إجبارى يجب أن تفرض على هذه الكائنات بقوة الدولة».. وبالنسبة لإنجاز الجلاء مثلا، فإنه قدم للناس على أنه نتيجة البطولة التى أظهرها المفاوض المصرى، دون وضع الإنجاز فى سياقه، حيث إن المفاوضات المصرية، كان تجرى قبل ذلك، فى ظل قوة الاستعمار البريطانى ونفوذ الامبراطورية البريطانية العالمى، بينما تغيرت الظروف بعد الحرب العالمية الثانية، وانحسرت الإمبراطورية القديمة، وورثتها القوة الأمريكية الصاعدة، حيث نشأت ظاهرة الدول المستقلة حديثا..وهذا ينطبق على بروز نظام القطبين، الذين حكم النظام الدولى، وأعطى فرصة أوسع لهذه الدول.. وأفاض فى الأثر السلبى للسياسات الاقتصادية: وقد «كان فقر السياسة الاقتصادية للنظام، فرعا من فقره السياسى العام، فلم يتم الوصول إلى المعدل المطلوب وهو 5% وفى الصناعة 9% بينما حققت إيران 14% وانتهت الخطة بعجز وصل إلى 417 مليون، ولم تحقق الصناعة إنجازا أكبر مما حققته فى الثلاثينيات على يد القطاع الخاص». دكتاتورية الشعب ويصل إلى مبدأ مهم من مبادئ الأيديولوجيا الناصرية وهو ما يسميه ديكتاتورية الشعب.. فبعد تصفية كل المؤسسات السياسية القائمة، كان لابد من ملء هذا الفراغ وبدءوا بخلق مؤسسة سياسية واحدة، تحت قيادتهم، ينضوى تحتها الشعب كله، حيث كلنا هيئة التحرير فى البداية، ثم ورثتها تنظيمات تحت مسميات أخرى، وكلها من إنشاء السلطة، وتابعة لها، وتعتبرها ممثلة للشعب كله، الذى تربطه وحدة ثقافية متخيلة.. وأدق تفسير لهذه الفلسفة، يظهر فى البيان الذى وجهه جمال عبدالناصر، فى اليوم التالى لانتهاء أزمة مارس، الذى جاء فيه لن تكون هناك ديكتاتورية إلا ديكتاتورية الشعب.. وهى عبارة يراها بليغة الدلالة فى وصف الفلسفة. فالحكم ليس بالشعب، ولكن باسم الشعب. بل إنه جرى بالفعل احتفال لتسليم الثورة إلى الشعب، حيث خرج موكب مهيب من مجلس الثورة إلى ميدان الجمهورية، حيث الشعب ينتظر فى سرادق ضخم، ليتسلم الثورة.. وخطب فيهم جمال عبدالناصر قائلا: الآن كلكم مجلس الثورة..وملخص الحكم «باسم الشعب» أن يحكم الضباط الأحرار أو مجلس الثورة أو جمال عبدالناصر، باسم الشعب، الذى قبل وصاية هؤلاء عليه وتمثيلهم لمصالحه راضيا. وظلت مقولة الشعب، ذلك النداء الغامض، هو المحور الذى تتوالد حوله المقولات الأخرى: مكاسب الشعب، حكم الشعب، تحالف قوى الشعب، أعداء الشعب، الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب. الزعيم ثم نصل إلى مبدأ المبادئ، فى الأيديولوجيا الناصرية، وهو الزعامة الكارزمية.. فإذا كان الشعب قد تحول فى المبدأ السابق إلى أفراد متفرقين، ينتظمهم الزحف المقدس، الذى تحدث عنه عبدالناصر فى فلسفة الثورة.. فإن الذى يمثلهم هو الزعيم، الذى تجتمع فيه البطولة بالإلهام بالقدرة على الإنجاز. وقد وصف الفصل المخصص لهذه النقطة كيف تكونت وولدت ورسخت هذه الزعامة، من خلال مادة واسعة من الوقائع والتخطيط والتعبئة. منذ كان جمال عبدالناصر فى البداية هو الأول بين متساويين، إلى أن اتسعت المسافة بينه وبين التالى له فى الترتيب، ثم أصبح وحده نجما تهفو إليه الأفئدة. ومنذ 56، حيث تم الاستفتاء على الدستور وانتخاب جمال عبدالناصر رئيسا، فإن كل وثائق النظام تقوم على «محورية منصب رئيس الجمهورية، والاحتكار المطلق للسلطة، إلى حد أن أى مؤسسة منتخبة أو معينة، كانت تنبثق وتستمر وتتحدد صلاحيتها وتتغير وتلغى، أو حتى يتم تجاهلها ببساطة، بناء على قراراته التى لا توجد جهة تراجعها أو تخاصمها أو حتى تبدى رأيا، وباختصار كانت سلطة الرئيس الحقيقية، الدعامة الواقعية للصورة بالغة البروز لعبد الناصر فى النظام السياسى.. وكل قراراته من أعمال السيادة التى لا تخضع لرقابة القضاء، حتى فى أمور صغيرة مثل الموافقة على شراء سيارات كبار الموظفين.. هيمن ظله وحده على الوطن والشعب كله. والمقتطفات التى نقلها من مقالات كبار الكتاب، يعجب حتى الذين عاشوا العصر، حين نقرأها اليوم، كأننا لم نكن نعيشها ونقرأها، ونسير صامتين مؤيدين فى صفوف متراصة.. سأضرب مثلا واحد من مقال للدكتور مصطفى محمود! أنه أكثر من شخص، لأنه يحتوى على معنى وجودنا كله.. على آمالنا.. وإرادتنا وقوتنا.. وحبنا.. ومستقبلنا.. إنه نحن.. نحن نتنفس من رئتيه ونرى من عينيه ونحس من قلبه.. ونتكلم من لسانه.. ونطل من شرفات عقله على الدنيا.. إنه كلمتنا.. وطريقنا.. إنه صبرنا.. إنه زعيمنا.. لأن فيه تتجسد قوانا الروحية جميعا.. وأنا أؤمن به.. ومن خلالها أؤمن بالله.. أنا بعبدالناصر أشعر بأشرف ما فى وجودى.. روحى.. وأعلم واثقا أنه الغد لى».. ولعله أن يكون من المصادفات الحسنة، أن المشرف على الرسالة الدكتور عاصم الدسوقى واللذين شاركا فى الحكم عليها الدكتور أحمد يوسف والدكتور على بركات وثلاثتهم من الذين ينتمون إلى معسكر عبدالناصر بإيمان وقوة. وقد كانت المناقشة التى سعدت بحضورها فى حينها ممتعة للغاية..فرغم الاختلاف الذى أبداه الثلاثة، مع بعض أو كثير من النتائج التى توصل إليها، إلا أن الاختلاف والحوار، دار فى جو من الاحترام والمناقشة العلمية. بل إن الدكتور أحمد يوسف، كرر أنه استمتع بالمشهد الذى رسمه الباحث، وأكد له أن كتابه سيكون واحدا من المراجع الأساسية فى موضوعه..غير أن الدكتور عاصم لم يكتم عدم موافقته بخشونة يمازجها حدب الأستاذ، وخاطبه «هذا البحث يعجب الأمريكيين والإسرائيليين» يقصد الأعداء. نحن أحوج ما نكون إلى مثل هذه الدراسات التى تصدر عن حس بالمسئولية وقلق على الحاضر، وإدانة لأى نظام يقوم حلى حكم الفرد وانعدام المحاسبة وغياب مؤسسات حقيقية وقتل روح المبادرة والمشاركة.. وهى فى النهاية لا تقلل من قدر القادة التاريخيين. فعبدالناصر كان ابن عصره، ولسنا فى حاجة لتكرار تجربته وأخطائه.. وحين خصص لويس عوض كتابه لأخطاء الناصرية السبعة، فإنه ختمه بعبارة «المجد كل المجد لهذا الزعيم العظيم». فلننظر إلى تاريخنا بعين النقد والتقييم، ونتطلع إلى مستقبل لا نحتاج فيه إلى زعيم، يحمل عنا المسئولية. • رشدى أبوالحسن