كنا في الشهور الأخيرة من السنة الثالثة بقسم العلوم السياسية، بكلية الاقتصاد، في سنة 1991، ورغم انتهائنا من دراسة عدد غير قليل من مقررات العلوم السياسية لكن كانت مازالت نظرتنا بسيطة للعالم المحيط، تغلب عليها الثنائيات البسيطة: الحق والباطل، الأبيض والأسود، الخير والشر، ولم نكن ندرك بعد تعقيدات البيئة الإقليمية والعالمية المحيطة، ولم تكن نظريات العلاقات الدولية قد حفرت لنفسها بعد موضعا في طريقة إدراكنا وتحليلنا للسياسات الدولية، حتى طرح علينا سؤالا قبل بدء محاضرته بقاعة (5) في إطار منهج «تحليل السياسة الخارجية»: «ما رأيكم في عملية السلام المزمع بدؤها قريبا بين العرب وإسرائيل؟ جاءت معظم الإجابات رافضة لتلك العملية باعتبار «السلام» فكرة مرفوضة في ذاتها مع «إسرائيل». ودعم البعض رفضه بآيات من القرآن الكريم. وعندما رددنا إليه سؤاله هل أنت مع أم ضد السلام مع إسرائيل؟ لم يقدم لنا موقفا شخصيا محددا، مع أو ضد عملية السلام، وكانت تلك عبقريته كأستاذ حدد مهمته الأساسية في نقل قواعد التفكير العلمي والمنهجي إلى طلابه حديثي العهد بالتحليل السياسي، وليس موقفه السياسي أو الأيديولوجي. منذ ذلك التاريخ نشأت علاقة توافق فكري بيني وبين أستاذي، رغم أن الكثيرين كانوا يهابونه إذ كان إنسانا ينزع إلى الرصانة والصرامة، يعطي انطباعا سريعا بأن الابتسامه أو الطرفة لا تعرف إليه طريقا. لكنه على عكس ما كان يعطيه من انطباعات كان شديد المرح، يعشق النكته، ولديه مهارة خاصة في إلقائها، لا يترك مجلسا أو مكانا يطرقه حتى يضفي عليه ألفة وبهجة تخلق ارتباطا وتعلقا به، كل ذلك بجانب صرامته ورصانته التي لم يختلف عليها اثنان. تلك كانت المفاتيح الأساسية لشخصية أستاذي محمد السيد سليم. كنت من طلابه المحظوظين، إذ شاء القدر بعد أن انتهيت من أداء الخدمة العسكرية، وفى أثناء التحاقي بالدراسات العليا، أن أعمل مساعدا له فى أثناء تأسيسه مركز الدراسات الآسيوية، بالحجرة رقم 54 بالدور الثالث بكلية الاقتصاد، وهي المرحلة التي استمرت خلال الفترة من منتصف سنة 1994 وحتى نهاية 1995، عرفته خلالها عن قرب، أستاذا مخلصا لعلمه ولطلابه، وإنسانا مرحا شديد التواضع، شديد التأثر بآلام الآخرين. ولا يتسع المجال هنا للحديث عن إضافته المهمة في حقل الدراسات الآسيوية، كما هو الشأن بالنسبة لحقل العلاقات الدولية، فهي أمور يعرفها الجميع. لكن ما يهمني هنا، باعتباري شاهدا على تلك المرحلة، ما أرساه أستاذي من تركيز على شباب الباحثين. لقد كان من السهل أن يقوم بتوزيع المشروعات البحثية التي أجراها المركز على أساتذة الكلية، وكانوا بالتأكيد قادرين على القيام بتلك المهمة، لكنه كان مصرا من اليوم الأول على إفساح المجال لشباب الباحثين. وكانت فلسفته هي أن الحقل البحثي «الشاب» في مصر لابد أن يقوم على الشباب. ولا أنسى هنا المشروع البحثي المهم الذي نظمه المركز بعنوان «العلاقة بين الديمقراطية والتنمية في آسيا» (تحت إشراف د. نيفين مسعد)، كان نصيب الباحثين الشباب حديثي التخرج، حديثي العهد بالبحث العلمي، سبعة أبحاث من إجمالي أربعة عشر بحثا، كان من نصيبي دراسة حالة العلاقة بين الديمقراطية والتنمية في الفلبين. كانت مغامرة، لكنها آتت أكلها؛ فقد أصبح معظم هؤلاء متخصصين بارزين في حقل العلوم السياسية والدراسات الآسيوية. كان القرب من أستاذنا يسمح باكتشاف الجانب الإنساني المتجذر في شخصيته. ولا أنسى أبدا فى أثناء عملي معه موقفين. الأول، عندما قررت أن أترك العمل بالمركز، كان ذلك في 16 ديسمبر 1995 في نهاية اليوم الثالث من المؤتمر السنوى الأول للمركز حول «النموذج الكوري للتنمية»، حيث كنت قد أبطنت ذلك القرار لحين الانتهاء من المؤتمر. فقد جلس معي في نهاية اليوم سعيدا جدا بنجاح المؤتمر، وردود الفعل التي أحدثها، وبدأ يستفيض في كيفية تنظيم العمل بالمركز. تركته يتحدث حتى لاحظ أنني لا أنطق ولا أعلق، فقاطع سكوتي، سائلا: «محمد... مالك؟»فأجبته «أنا عاوز أسيب المركز»... كانت إجابتي صادمة. واستفضت في الشرح وهو يسمعني بإنصات: العمل بالمركز لم يعد طموحي، كنت أنتظر أن يتم تأسيسه كمعهد للدراسات الآسيوية بما يسمح لي بالعمل كمعيد.. لكن أما وقد تم تأسيسه كوحدة ذات طابع خاص فهذا أمر مختلف. كنت أتوقع أن يقول لي «اخرج بره» لكني فوجئت بأب، يرتب لي أموري ويقنعني أن أعمل باحثا مساعدا من الخارج حتى أجد فرصة أخرى، خاصة أني لم أكن قد انتهيت من البحث المكلف به عن حالة الفلبين حتى يقتنع بإمكاناتي كباحث. ثم كان دوره المهم في التحاقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بعد أقل من شهرين، وتحديدا في فبراير 1996، وتذكيته المخلصة لي لدى د. طه عبد العليم، نائب مدير المركز آنذاك، خاصة أنني كنت قد انتهيت في ذلك الوقت من دراسة الفلبين، حيث كانت السند الأول في اقتناعه بي كباحث. الموقف الثاني يتعلق بإحدى الطالبات التي كانت قد اتفقت معه على تسجيل درجة الماجستير في أحد الموضوعات الآسيوية، وأمدها بعدد هائل من الدراسات والمراجع، ثم اختفت فجأة. وإذ بنا وأنا أسير بجانبه في إحدى طرقات الكلية يلمح الطالبة، وهي تجري للتخفي منه. فأصر على ملاحقتها حتى أنها لم تجد فرصة إلا مواجهته وهي في حالة توتر شديد، وصارحته القول إن شابا تقدم لخطبتها، وتخشى أن تندمج في عمل الماجستير فيؤثر ذلك على مشروع زواجها!! كان عدم الالتزام مسألة شديدة الخطورة بالنسبة له، وتثير تعصبه، لكني فوجئت به يبادل حالة التوتر لديها بابتسامة أب، بل إنه ظل يتابعها ليطمئن عليها وعلى مشروع زواجها، حتى انتهت منه لتعود مرة أخرى إلى العمل الأكاديمي. التعامل معه عن قرب كان يسمح باكتشاف الأبعاد الإنسانية العميقة في شخصيته، لكن السفر معه كان الفرصة الحقيقية لاكتشاف محمد السيد سليم الوطني. لقد حمل على عاتقه كشف زيف الإخوان المسلمين ومشروعهم. حاولوا استقطابه خلال فترة حكمهم من خلال تكليفه بمشروع بحثي كبير، وانتظروا رده عليهم، لكن رده جاء على طريقته؛ إذ قام بنشر سلسلة من المقالات والدراسات حول زيف مشروعهم وخطورته، وتفنيد مقولاتهم التي تشدقوا بها. والأهم من ذلك، تصديه للكشف عن خطورة هذا المشروع داخل مراكز البحوث الدولية والدوائر الرسمية وشبه الرسمية. لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات