لا أحد يدرى أكان ذلك الشاب اللبناني، الذى نزح إلى مصر فى 1874 هرباً من الطغيان العثماني، حين أصدر العدد الأول من «الأهرام» فى الخامس من أغسطس 1876 يدرك أنه يؤسس لواحدة صارت من أعرق المؤسسات الصحفية فى العالم وأكثرها احتراماً؟ بدت عبقرية الأهرام منذ الوهلة الأولى لنشأتها، فاسمها رمز لمصر وحضارتها العظيمة ومؤسسها خط، منذ اللحظة الأولي، هوية عربية لصحيفته تعززت لاحقاً على أيدى من توالوا بعده على رئاسة تحريرها إلى أن بلغت عروبة الأهرام ذروتها بالتحامها بثورة يوليو وزعيمها. وفى مناسبة الميلاد الأربعين بعد المائة وجدت أن من حق الأهرام على كقارئ مصرى عربى واظب على قراءته ما يزيد على نصف قرن أن أكتب شهادتى عن قيمتها لمن شاء الله أن يختاروا البحث العلمى طريقاً لحياتهم، إذ إن بعداً أساسياً لتفرد الأهرام فى تقديرى أنها لم تكن مجرد صحيفة تنقل الأخبار والتحليلات المتعلقة بها وإنما كانت مكنزاً لكل ما هو ذى قيمة فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والآداب والفنون والفكر الدينى بل والرياضة ومنبراً لشوامخ الفكر وهاماته العالية فى مصر والوطن العربى، وبالنسبة لى كباحث كان لى معها تاريخ طويل. بدأت علاقتى بالأهرام بمجرد تخرجى فى الجامعة فى 1969، وكان الدكتور بطرس غالى أمد الله فى عمره رئيساً لقسم العلوم السياسية الذى تخرجت فيه وعينت معيداً به، وكان من عادته أن يكلف المعيدين الجدد بكتابة تقارير لمجلة «السياسة الدولية» التى كان يرأس تحريرها، وهى بالمناسبة واحدة من الجوانب المضيئة لتفرد «الأهرام»، فلم يكن معتاداً على الإطلاق فى ذلك الوقت وبالذات فى الوطن العربى أن تصدر مؤسسة صحفية مجلة أكاديمية برصانة «السياسة الدولية»، وهكذا أصبحت واحداً من الكتاب المنتظمين لتقارير المجلة، وشاء حظى السعيد أن يكون الدكتور بطرس راضياً عما أكتب فبدأ يوكل لى مهام أكثر تعقيداً وصولاً إلى كتابة الدراسات التى كانت مقصورة فى ذلك الوقت على حاملى الدكتوراه، وبالتالى كانت الأهرام هى البوتقة الأولى التى بدأت فيها مسيرتى البحثية حتى قبل أن أجتاز السنة التمهيدية للماجستير، وعندما حصلت على درجة الدكتوراه فى 1978 بادر الدكتور بطرس بالتعاقد معى خبيراً بمركز الدراسات السياسية والاستراتيچية بالأهرام، وهو جانب آخر من جوانب تفرد الأهرام قدر له أن تتطور لاحقاً بحيث أصبحت تثرى حقل السياسة والاستراتيچية بكافة أبعادها بعدد من الإصدارات الرصينة التى لم يعد هناك غنى عنها لأى متخصص فى مصر والوطن العربى . لكن الأهرام لم تكن بالنسبة لى مجرد تكليف وإنما سعيت إليها بنفسى فى مسيرتى البحثية ، فقد شاءت الظروف أن أختار لرسالة الدكتوراه موضوعاً شائكاً هو «التدخل العسكرى المصرى لنصرة الثورة اليمنية فى سنوات 1962-1967، وكانت مصادر الموضوع ومراجعه قليلة فبدأت البحث فى كل اتجاه بما فى ذلك الأهرام، والحقيقة أننى فوجئت بالتغطية الشاملة والأمينة لأبعاد أساسية فى موضوعى، وأذكر بصفة خاصة بعض الوثائق الدولية المهمة كاتفاقية فض الاشتباك التى تمت برعاية الأممالمتحدة فى نهاية 1963، وكنت قد رجعت إلى هذه الاتفاقية من مصدرها الأصلى وهو وثائق الأممالمتحدة وعندما كنت أتصفح الأهرام الذى اطلعت على أعداده كافة فى النطاق الزمنى لدراستى بالكامل وجدت نص الوثيقة ولفتتنى دقتها فرجعت إلى النص الرسمى فإذا بترجمة الأهرام بالغة الدقة، وعندما أبديت إعجابى بهذا الأمر للأستاذ هيكل لاحقاً رد على بنوع من العتاب: «وهل كنت تنتظر غير ذلك؟»، ولا بد من أن أذكر فى هذا السياق أننى عندما طلبت مقابلته لحاجتى لإجابات عن بعض الأسئلة التى رأيت أنه الأقدر على إجابتها بحكم متابعته للموضوع وقربه من مركز صنع القرار بادر بسؤالى عما إذا كنت قد قرأت مقالاته «بصراحة» حول الموضوع فأجبته : «ليس بعد» فطلب منى أن أقرأها أولاً ثم آتى لمقابلته، وعندما قرأتها فهمت السبب فى هذا التوجيه إذ إننى لم أحتج بعدها إلى الذهاب إليه، كذلك لا بد من أن أشير بالعرفان إلى التقارير التى كان الأستاذ مكرم محمد أحمد يكتبها عندما كان مراسلاً للأهرام فى اليمن عن تطورات الصراع والتى أشهد بأنها كانت قمة فى الموضوعية أكثر من أية تقارير أخرى عربية ودولية رغم حساسية الموضوع فى ذلك الوقت، والوقع أن ما فعله الأستاذ مكرم لم يكن سوى انعكاس لتقليد عريق ل «الأهرام» ازداد رسوخاً عبر الزمن حتى يومنا هذا. وبسبب هذه الخبرة بالغة الإيجابية مع الأهرام فى مرحلة الإعداد لرسالة الدكتوراه قررت الاعتماد عليه كمصدر أساسى للبيانات فى أول مشروع بحثى كبير لى عن الصراعات العربية - العربية، وكنت قد اخترت تحليل بيانات الأحداث منهجاً لدراستى، وهو منهج يقوم على جمع كل بيانات الأحداث بشكل يومى عن الظاهرة موضوع التحليل ثم تحويلها كمياً وفقاً للمقياس المتبع فى هذا المنهج ، ولم أجد مصدراً يتوافر فيه عنصر الاستمرار الزمنى - إذ امتدت دراستى لسبع وثلاثين سنة - والدقة سوى الأهرام، ولاعتبارات التدقيق العلمى كان يتعين على أن أضبط هذه البيانات بمصدرين آخرين أحدهما عربى والثانى أمريكى وأشهد أننى وإن وجدت بعض النواقص فيما جمعته من الأهرام لم أعثر على معلومة مغلوطة فيها. ربما تكون سنوات قد مرت على الأهرام فقدت فيها بهاءها، وكنت فى هذه السنوات أتحسر على ما آل إليه حاله بحيث أصبحت أقرأ العدد الأسبوعى فى دقائق بعد أن كنت أوزع موضوعاته على مدى أيام الأسبوع ، لكن الأهرام عادت بعد ذلك بقوة واقتدار إلى مكانتها الأصيلة وتقاليدها العريقة مرآة عاكسة لمصر. الأهرام بكل عظمتها وعطائها وإسهامها فى حضارة الإنسان، وليت الأهرام يحيى التقليد الرائع الذى بادر به ابن مصر البار المرحوم يونان لبيب رزق بمواصلة كتابة تاريخ مصر من خلال أهرامها. لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد