كُلّمَا حَلّت بِنَا ذِكرَى انْتِصارِ جَيْشِ مِصْرَ البَاسِلِ فِى مَعْرَكة "أكْتُوبَر رَمَضَان" قَبلَ أكْثَر مِنْ أرْبَعِين عَامًا، أحْسَسْتُ أنّنا لَسْنَا وَحْدَنَا الّذِينَ نَحْتَفِلُ بِهَذَا اليَومِ الأغَرّ فِى تَارِيخِنَا.. يَومِ النّصْر. يَتعمّقُ هَذَا الإحسَاسُ إِذَا تَوقفْنا بِالدّرَاسَةِ وَالبَحْثِ وَالتّأمّلِ أمَامَ بُطولاتِ رِجَالِ جَيشِ مِصْر، الّتِى بَلَغَتْ حَدّ “المُعجِزات” بِشَهادَةِ كِبارِ الْخُبراءِ العَسكرِيّين فِى كُلّ أنْحَاءِ الدّنيَا. سَطّروا بِدِمائِهم الطّاهِرَةِ أعْظَمَ آيَاتِ الإيْمانِ وَالتّضحِيَةِ وَالفِدَاءِ وَالْعَبْقريّةِ العَسْكريّةِ فِى مَلْحَمةٍ فَريدَةٍ لايَزالُ الْعَالَمُ بِقادَتِهِ وخُبرائِهِ ومُفكّريهِ وشُعوبِهِ المُحبّةِ لِلحَقّ والعَدْلِ والسّلام يَنحَنِى أمامَها إجْلَالا لِرجالَاتِها، وتَقدِيرًا لِتضْحِياتِها، وإعْزَازًا لِمَبَادِئِهَا، وَاحْتِرَامًا لأهْدافِهَا. أشْعرُ كَأنّ سَيّدَنا رَسُولَ الله مُحَمّدًا بنَ عَبْدِالله، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَرَسُولَ الله الْمَسِيحَ عِيسَى ابنَ مَرْيَم عَلَيْهِ السّلام وَسَلّمَ يُبارِكَانِ فَرحَتَنا بِيَوم الْعِزّةِ وَالْكَرَامَةِ، كَما كَانا يَشُدّانِ عَضُضَنا فِى تَلكَ الْمَلْحَمَةِ الكُبرَى بِتعَالِيمِهِما الرّبَانِيّةِ السّامِيَة الّتِى قَادَتْ إلَى نِصْرٍ كَبِيرٍ، سَيَظَلُّ شَاهِدًا حَيًا عَلَى وَحْدَةِ الْمِصْرِيّين وعِزّتِهِم. يَغمُرُنى إحساسٌ قوي، كَأَنّ مَلائِكَةَ اللهِ الطّوّافِينَ السّائِحِينَ فِى الأرضِ يَجلِسُون إلَينا، يَشْهَدُونَ مَعَنَا احْتِفَالاتِنَا الّتِى نَشْكُرُ فِيهَا رَبنَا سُبْحانَهُ وَتَعالَى عَلَى نَصْرِهِ وَتَأْيِيدِه. وسيعُودُ هَؤُلاءِ الْمَلائِكَةُ الْكِرامُ إلَى رَبّهِم، عَزّ وَجَلّ، لِيَشْهَدُوا بِأَنهُم وَجَدُوا شَعْبَ مِصْرَ وَجَيْشَهَا يَحْتَفِلُونَ بِيَومِ النّصْرِ، ذَاكِرِينَ اللهَ تَعالَي، حَامِدِينَ نِعَمَهُ، شَاكِرِينَ فَضْلَهُ، رَاجِينَ عَوْنَهُ، آمِلِينَ عَفْوَهُ، عَسَى أَنْ يَشْمَلَنَا رَبنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتعَالَي: “أُشْهِدُكُم يَا مَلَائِكَتِى أَنّى غَفَرْتُ لَهُم”. ............................................................................................. لنصرِ “أكتوبر رمضان” المجيدِ أسبابٌ كثيرةٌ يدرِكُها الأعداءُ قبلَ الأصدِقاءِ، ويعكفُ النّابهون فى معاهدِ العالمِ العسكريّةِ حتى الآن عَلَى دِراستِها، والإفادةِ منها. لمْ تَكُنْ تلكَ الأسبابُ بعيدةً عنْ مُعتقداتِ المِصريّين التى آمنُوا بِها، وتمثلوها سلوكًا بعدَ أنْ تعلّمُوها مِن تعاليمِ سيّدى رسولِ اللهِ محمدٍ بنِ عبدِاللهِ، صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ، ورسولِ الله المسيحِ عيسى ابنِ مريم ُ عليهِ السّلام. تعاليم ربانية، وحّدت القلوب والأهداف والغايات، وجمعت المصريين على المحبة والإخاء والإيثار، فأصبحوا على قلب رجل واحد، يتنافسون أيهم يفتدى أخاه بنفسه، ويسبقه إلى الشهادة فى سبيل الله، فداء لمصر، وحماية لحقوقها، وإعزازا لشعبها، وصونا لكرامتها، وحفاظا على هيبتها وكبرياءها. كانوا يتسابقون إلى المواقف الصعبة حاملين أرواحهم الطاهرة على أكفهم يبذلونها حماية لمصر وأهلها.. لم ترهبهم طائرات العدوّ.. لم تُخِفْهُمْ دباباته.. لم تَفْترْ عزائمهم أمام أكاذيبه.. ثقتهم بربهم، وإيمانهم بحقهم، وإصرارهم على التضحية كانت أقوى من كل سلاح. لم يكن أحد يملك الإجابة عن سؤال بسيط فى ألفاظه، عميق فى جوهره ودلالاته: مَنْ يسبق مَنْ إلى الشهادة فداءً لمصرَ وشعبِها وحقوقِها؟ محمدٌ يسبقُ جرجس أم يفوزُ بها بطرس قبل أحمد؟ أم يجمعهما الله عليها فى وقت واحد، فتختلط دماؤهما الزّكِيّة، وتتعانق أشلاؤهما الطاهرة، ليكتبا للبشرية فصلا جديدا مضيئا من تاريخ «أم الدنيا» عنوانه: «مصر تجمع أبناءها على المحبة والفداء». نعم.. اختلطت دماء بعض الشهداء، وتعانقت أشلاؤهم، حتى استحال على الجميع التمييز بينهم.. وكيف لنا أن نفرق بين مَن شاء الله سبحانه وتعالى أن يجمعهم فى مواقف التضحية والشرف والعزة؟. (1) هذه مصر القوية الأبية، وهؤلاء أهلها «المنتصرون» الذين أحببتهم يا رسول الله، محمد بن عبدالله، دون أن تراهم، وقبل دخولهم الإسلام. فلما اعتنقوه كانوا أكثر الناس استمساكا به، وأوعاهم لتعاليمه وأحكامه، وأفهمهم لأوامره ونواهيه، وأفضلهم تعبيرا عن وسطيته واعتداله. كَشَفْتَ يا رسول الله عن هذا الحب الكبير فى وصيتك الخالدة التى أودعتها عقول أصحابك وخلفائك الراشدين، وقلوبهم، وأماناتهم، حين بشّرتهم بفتح مصر: «ستُفتح عليكم بعدى مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لهم ذمة ورحما». وأمرتَ أصحابك: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا بها جندا كثيفا».. وصفت هؤلاء الجند بأنهم «خير أجناد الأرض..».. كما وصفتَ أحبابك المصريين بأنهم وأزواجهم «فى رباط إلى يوم القيامة». كعادتك فى كل حياتك، كنت كريما فى حديثك عن مصر وأهلها يا رسول الله، فأسندت فتح مصر فى بعض أحاديثك الشريفة إلى الله عز وجل، فمصر عندك «نعمة» كبرى يَمُنّ الله تعالى على المسلمين بفتحها. ولا يتعارض هذا المعنى مع حديثك الشريف الذى أخرجه الإمام مسلم عن أبى ذر رضى الله عنه: «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما».. وفى رواية أخري: «إنكم ستفتحون مصر وهى أرض يُسمى فيها القيراط فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما» أو: «ذِمّة وصِهْرا». إن تعدد الأحاديث والروايات يا سيدى يا رسول الله أعظم دليل على محبتك الكبرى لمصر وأهلها، واهتمامك بشأنها وقدرها ومكانتها. أبرزتَ أن من أهم صفات المصريين أن لهم «ذمة” ومن لوازم هذه “الذمة” أن يتصفوا بالأمانة، والصدق، والوفاء بالعهد، واحترام حق الغير.. وغيرها من مكارم الأخلاق. صدقت يا رسول الله.. المصريون كما وصفتهم، لا يَضُرّهم مَنْ شَذ فأمات ضميره، أو أقبر ذمته، أو خان أمانته، أو كذب متعمدا، أو نكث عهوده، أو غش وخرب، أو هدم واغتصب، أو تطرف وانحرف، أو أرعب وأرهب.. فمَن فعل ذلك فليس منا. المصريون لهم “ذمة” يا رسول الله، ومن مقتضياتها أنهم دعاة “محبة” تسع الناس جميعا، تعلموها من قول ربنا عز وجل لأخيهم المصرى رسول الله “موسي” عليه السلام: “وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي”.. فالله تعالى ألقى محبته فى أرض مصر على نبيه “موسي” ابن مصر. ومصر أرض أمن وأمان، يشهد بذلك القرآن الكريم الذى ربط الأمن والأمان بمكانين فقط، هما بيت الله الحرام، ومصر التى قال عنها: “ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ”. (2) هذه مصر القوية الأبية يا رسول الله المسيح عيسى ابن مريم، وهؤلاء أهلها “المنتصرون” الذين أجمعوا على حبك بمقتضى عقيدتهم التى تلزمهم بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.. “لَا نُفرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ”. تشرف المصريون بزيارتك وأمك المصطفاة الطاهرة سيدتنا “مريم” إلى ديارهم فى رحلة إيمانية أطلقوا عليها “رحلة العائلة المقدسة”.. يحتفلون بها فى كل عام.. يستلهمون منها الدرس والعبرة، لا فرق فى ذلك بين مسلم ومسيحي. نحن فخورون بهذه الرحلة التى ائتمنت خلالها المصريين على حياتك، وحياة أمك المصطفاة الطاهرة، بعد أن أضمر لك أعداؤك شرا، وأعدوا الخطط لقتلك، ففضحهم الله عز وجل، وحماك منهم بتلك الرحلة. باركتَ ديارنا بأمر ربك.. تركت فى كل موقع مررت به أثرا يدلنا عليك.. يؤكد حبنا لك.. يعمق إيماننا برسالتك، فذلك شرط لصحة عقيدتنا. رحلة شاركناك وأمك المصطفاة الطاهرة خلالها طعامكما وشرابكما.. أكلنا جميعا مما أنبتت أرض مصر، وشربنا من مائها، وركبنا صفحة نيلها الخالد متنقلين بين ربوعها، وتنسمنا هواءها فى كل مكان مررت به.. سبع سنوات.. لم تكن تسكن فيها وطننا فحسب، بل سكنت قلوبنا أيضا، فمصر كما كان يحلو للراحلين الكبيرين مكرم عبيد والبابا شنودة الثالث أن يصفاها “وطنٌ يعيشُ فينا” وليست مجرد وطن نعيش فيه. تُذكّرنا رحلتك يا سيدنا المسيح برحلة كريمة إلى مصر سبقك بها أبو الأنبياء خليل الله ورسوله “إبراهيم” عليه السلام، وزوجته الطاهرة السيدة “سارة”.. عاد خليل الله منها مصطحبا زوجته الثانية المصرية الطاهرة السيدة “هاجر”. كما سبقك إلى العيش فى مصر سلفك العظيم رسول الله “موسي” عليه السلام، وأخوه ووزيره رسول الله “هارون” عليه السلام، ومثلهما أنبياء الله: يعقوب، ويوسف بن يعقوب الذى أمضى حياته فى مصر وإخوته عليهم السلام، وآخرون من الأنبياء والصالحين. (3) نعود لحديثك يا رسول الله محمد بن عبد الله عن «نسب» المصريين و«مصاهرتهم» فتلك مكرمة عظيمة اختص الله تعالى بها أمتنا المصرية مرتين. جاءت الأولى على يد خليل الله ورسوله “إبراهيم” عليه السلام، حين تزوج أمنا المصرية الطاهرة السيدة “هاجر” رضى الله عنها فرزقه الله سبحانه وتعالى منها أول أبنائه وأكبرهم، جدك العظيم “الذبيح” رسول الله “إسماعيل” عليه السلام. من بركة ربنا وفيض فضله أنه عز وجل اختار المصريين “أخوالا” لرسوله “إسماعيل” الذى قال عنه القرآن الكريم: “وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا”. ويحفظ التاريخ بفخر وإعزاز لأمنا “هاجر” أنها “أم العرب” وأن ابنها رسول الله إسماعيل عليه السلام “أبو العرب” ولا غرابة فى أن ينطلق المؤرخون من هذه الحقيقة ليؤكدوا أن المصريين أصل العرب وأخوالهم. وأفاء الله علينا مرة ثانية بتلك المكرمة، على يديك الكريمتين يا رسول الله، حين تزوجت أمنا المصرية الطاهرة “مارية” رضى الله عنها ورزقك الله سبحانه وتعالى منها ابنك “إبراهيم” عليه رحمة الله. من بركة ربنا وفيض فضله أنه عز وجل اختار المصريين “أخوالا” لابنك “إبراهيم” الذى سُرِرتَ بهِ عند مولده، وحزنت بشدة لمرضه، وبكيته بخشوع عند وفاته، ونعيته بكلمات حفظها التاريخ درسا فى الإيمان والرحمة والصبر. علمتنا أن العين لتدمع، وأن القلب ليحزن، وأنه لا ينبغى لنا أن نقول فى أحزاننا إلا ما يرضى ربنا. فما أعظمك وما أرحمك وما أحلمك، وأنت تلف ابنك بأعظم مشاعر المحبة والرحمة والحنان، تودّعه عند وفاته: “إنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون”. ومن أخص سمات المصريين فى العلاقات الإنسانية، وخاصة الأسرية، أنهم يؤمنون بأن “الخال والد”. مقتضى تلك الحقائق أننا نحن المصريين “ذوا قربي” لأبيك خليل الله ورسوله إبراهيم عليه السلام، كما أننا “ذوو قربي” لك يا رسول الله.. نحن جزء أصيل من عائلتك، نشترك مع أمتك فى الإيمان برسالتك، ومحبتك، ونختص بنسبنا إلى “أسرتك”. أنت حبيبنا وسيدنا ونبينا ورسولنا.. وأنت زوج “أم المؤمنين” المصرية الطاهرة “مارية” وأبو ابنها “إبراهيم”.. ونحن إخوة زوجتك “مارية” وأخوال ابنكما “إبراهيم”. هذا شرفنا من نسب أبى الأنبياء رسول الله وخليله «إبراهيم» وقرابة ابنه من أختنا المصرية «هاجر» رسول الله إسماعيل عليهما السلام فهل من مُدّكِر؟ هذا شرفنا من أبناء مصر رسول الله «موسي» وأخيه رسول الله «هارون»، ونبى الله «يوشع بن نون» عليهم السلام.. فهل من مُعْتَبِر؟ هذا شرفنا من عزيز مصر، رب اقتصادها، أمين خزائنها، حفيظ كنوزها، عليم أسرارها نبى الله يوسف بن يعقوب زوج أختنا المصرية الطاهرة «زليخا».. فهل من مُنْكِرٍ؟ هذا شرفنا من رسول الله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وأمه المصطفاة الطاهرة، نزلا بأرضنا، سكنا وطننا، عاشا فى قلوبنا.. فهل من منافس؟ هذا شرفنا الأعظم منك أنت يا رسول الله محمد بن عبد الله.. شرفنا الأعظم فى نسبك الذى أصبحنا بمقتضاه «أخوال» ابنك «إبراهيم» وصِرنا جزءا من «آل محمد»، الذين تصلى عليهم الأمة الإسلامية عشر مرات، على الأقل، فى اليوم والليلة.. فهل من منازع؟ (4) هذه مصر القوية الأبية يا سيدى المسيح، وهؤلاء أهلها “المنتصرون”.. تعلموا من رحلتك كيف ينتصرون على العدوان، ويقاومون المعتدي، ويتمسكون بحقوقهم، ويرفضون الظلم وأهله، ويقهرون الحقد واليأس بالعمل والأمل. شعارهم المحبة والبركة والتسامح، التزاما بوصاياك، وطاعة لأمرك: “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ..”.. يتطلعون للفوز ببشراك: “طُوبَى لِصَانِعِى السَّلامِ”. فإذا قست قلوب الأعداء، وزين لهم الشيطان أعمالهم، وجعلوا أصابعهم فى آذانهم ساخرين من صوت الحق، واستغشوا ثيابهم فلم يسمعوا إلا أنفسهم، وأصروا على ظلمهم، واستكبروا على نداءات السلام، وتجمد سلوكهم عند نهب الأرض وسلب العرض، هبّ المصريون على قلب رجل واحد يؤدبون الأعداء، ويردون الاعتداء، ليصونوا الأرض والعرض. فعلها الأبطال يا سيدى المسيح فى ملحمة “أكتوبر رمضان”.. توحدت معتقداتهم الوطنية، تزكيها ثوابتهم الإيمانية، فتسابقوا أيهم يعطر تراب مصر بدمه أولا، فداء لوطنه، وتحريرا لأرضه، وصونا لعرضه. أخذ المصريون خصومهم بغتة.. أحدثوا تحت أقدامهم “زلزلة”.. فجاءهم نصر الله “هرولة”.. واستعادوا أرضهم كاملة. (5) سيدى يا رسول الله محمد بن عبد الله.. عندما هبّ جيش مصر البطل لرد العدوان، وتحرير الأرض، واستعادة الكرامة صاح فى المحتل: “الله أكبر” فزلزل أركانه، وشل تفكيره، وشتت صفوفه، وأسر جنوده، ودمّر عتاده. ارتفعت طائراتنا إلى السماء.. هتفت فى صوت واحد “باسم الله”.. دكّت حصون المحتل.. قصمت ظهره.. أنهت غروره.. بترت يده التى كانت “طولي”.. أثبتت للعالم أن جيش مصر قادر على أن “يَقهر” مَن يدعى أنه “لا يُقهر”. تذكر المصريون الأبطال قولك لأصحابك فى إحدى معارك الحق والعدل: “مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة”. شعروا كأنك تخاطبهم.. انطلقوا فى ملحمة يوم السادس من أكتوبر العاشر من رمضان “صائمين” بعد أن فرغوا من صلاة الظهر، عازمين على ألّا يصلوا العصر إلا فوق تراب سيناء “المحرر”. فعلها المصريون يا رسول الله.. توحدت كلمتهم، وتعانقت قلوبهم، واستعانوا بربهم، فأجرى على أيديهم “معجزة” أدهشت العالم، ومنحهم “نصرا” كانت الدنيا كلها تراه “مستحيلا”. فى ست ساعات.. قلبوا موازين العالم العسكرية، والسياسية، والتاريخية، والجغرافية.. حققوا نصرا زعم خبراء العالم وقادته وقتها أنه بعيد المنال، حتى لو أنفق المصريون فى الإعداد له ستة عقود. قالوا: إن عبور المصريين قناة السويس “مستحيل”.. تساءلوا مستنكرين: كيف “يحلمون” بعبور أكبر مانع مائى عرفه التاريخ، ومن ورائه خط “بارليف” الحصين؟ فلما عَبَرَ أبطالنا عجز خبراء العالم عن تفسير تلك المعجزة.. حارت عقولهم.. انهارت نظرياتهم.. لم يعوا قول ربنا عز وجل: “قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”. لم يدركوا أن صفحة القناة وسعت أصحابها.. قناتنا حاربت معنا.. حوّلت مياهها إلى نار.. صدّعت خطهم الحصين حتى “بار”.. حملت جنود الله مزهوة، ليستردوا بالعلم والإيمان والوحدة والإعداد والقوة “ما أُخِذَ بالقوة”. ندرك يا رسول الله أنك كنت ترى “يوم النصر” قريبا.. رائدنا إلى هذه الحقيقة أنك وصفت أحبابك المصريين قبل نحو ألف وخمسمائة عام بأنهم “خير أجناد الأرض” وأكدت أنهم “فى رباط إلى يوم القيامة”. (6) سيدى رسول الله محمد بن عبد الله.. ورسول الله المسيح عيسى ابن مريم.. أما عن حب المصريين للشهادة فى سبيل الله دفاعا عن النفس والوطن والأرض والعرض، ففى ذلك هم يتنافسون. تعلم المصريون الأبطال منكما أن “الشهادة” فى سبيل الله دفاعا عن الوطن ومقدساته واجب وشرف لا يجوز أن يتخلف عنه قادر عليه تحت راية ولى الأمر. آمن المصريون الأبطال بأن “الشهادة” ليست “موتا” وإنما حياة أفضل من حياتنا وأبقى مع النبيين والصديقين عند رب العالمين. أيقنوا أن الشهيد حين يختار لقاء ربه، إنما يمنح أهله ووطنه “الحياة” كريمة، ويهبهم الأمن والطمأنينة والسلام. وما كان لهذا النصر الكبير أن يتحقق دون أن يؤمن المصريون بقولك يا رسول الله: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيد”. ويدرك المصريون بإيمان راسخ ويقين ثابت أن “الشهادة” لا تكون فى عدوان على الأهل، أو تخريب الوطن، أو سفك الدماء، أو ترويع الآمنين، أو إرهاب الأبرياء، فتلك جرائم تتبرأ منها الأديان، وتجرمها الشرائع السماوية، وتحاربها. عرفوا قبل غيرهم أن الإرهاب لا دين له، ولا وطن، ولا جنسية، ولا أخلاق، فحذروا العالم من مخاطره. (7) سيدى رسول الله محمد بن عبد الله.. رسول الله المسيح عيسى ابن مريم.. يحتفل المصريون بذكرى هذا النصر الكبير مرتين فى كل عام.. فى أكتوبر، تبعا للتأريخ الميلادي، وفى رمضان، تبعا للتأريخ الهجري.. يكرمون أسماء شهدائهم وأسرهم.. يستلهمون من الذكرى روح الملحمة، وأسباب النصر، ليواجهوا بهما تحديات الحياة ومستجداتها، وينشدوا المزيد من التقدم والبناء والرخاء. وسيظل يوم انتصار “أكتوبر رمضان” دليل عزة وعنوان كرامة ووسام شرف للمصريين فى حاضرهم ومستقبلهم بعد أن أضافوا إلى مواثيق البشرية وعهودها وقيمها وعقائدها السياسية والعسكرية وأعرافها الاجتماعية مبدأ جديدا للفداء، شعاره “الدين لله والتضحية من الجميع”. يوم انتصار “أكتوبر رمضان” بزغ نور عصر جديد، تعمقت فيه وحدة المصريين، حتى أصبح شعب مصر وجيشها جسدا واحدا.. إذا اشتكى من الشعب عضو تداعى له الجيش بالفداء والتضحية. من حق جيشنا المنتصر أن نحيى رجاله، عرفانا بتضحياتهم من أجلنا، وأن نحيى أرواح شهدائه الأبرار الذين لبوا نداء الحق فداء لمصر وشعبها. شهداؤنا أحياء عند ربهم.. ينتظرون أهاليهم ليكونوا شفعاء لهم.. ليأخذوا بأيديهم إلى جنة الخلد مع النبيين والصديقين والشهداء.. الرسول صلى الله عليه وسلم بشرنا بذلك: “يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِه”. وسنظل نردد بكل إيمان وعزة وإباء قول ربنا فى أبطالنا: “مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ”. أما أنت يا شعب مصر، فتعجز الكلمات كلها عن وصفك.. تمنح ولا تمنع.. تحنو ولا تنحني.. تقنع ولا تطمع.. تُعين ولا تُهين.. تبادر ولا تعاير.. تُجاور ولا تُجاوز.. تصادق ولا تنافق.. تؤتمن فلا تخون حتى الخائنين.. فأنت الكبير. يا “أم الدنيا”.. يا شعب مصر العظيم.. يا جيش مصر الباسل.. كل عام بل كل يوم ونحن جميعا فى نصر.