فجأة، أطل شبح الفوضى والاقتتال الداخلى برأسه على الجابون، هذا البلد الهاديء الواقع فى أواسط أفريقيا، تحت وهم التغيير والإصلاح الزائف، والسبب أزمة سياسية بسيطة كان من الممكن حلها بحكمة ووعى يغلبان مصلحة البلد وأمن شعبه على أى شيء آخر، وبدون تدخلات خارجية. فمنذ إعلان نتائج انتخابات الرئاسة نهاية أغسطس الماضي، اندلعت أعمال العنف فى البلاد، ولا سيما فى العاصمة ليبرفيل، إلى الحد الذى سقط فيه ستة قتلى، وألقت قوات الأمن القبض خلالها على ما يزيد عن ألف شخص، وفقا للأرقام الرسمية المعلنة. الأزمة بدأت مع إعلان لجنة الانتخابات الرئاسية فى البلاد فوز الرئيس الجابونى على بونجو بفترة ولاية ثانية بعد تفوقه على خصمه جين بينج بفارق بسيط لا يتجاوز 6 آلاف صوت، فى حين أكدت المعارضة أن مرشحها بينج هو الفائز وسط اتهامات لبونجو بالتزييف والتزوير الواسع. المعارضة تركز فى اتهاماتها لبونجو على مقاطعة «أوجووى العليا» تحديدا، التى تعد معقل الرئيس، حيث بلغت نسبة إقبال الناخبين فيها على التصويت 99،93% أيد 95% منهم بونجو، مقارنة بنسب اقبال تراوحت ما بين 45% إلى 71% فى بقية المقاطعات. بعد ذلك، أعلنت المعارضة بزعامة بينج - 73 عاما- الحرب على بونجو - 59 عاما - الذى تحكم أسرته البلاد منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، ووصل الأمر إلى حد الاستقواء بالخارج ودعوة الولاياتالمتحدة صراحة للتدخل فى الأمر وإزاحة بونجو من الحكم بالقوة، وسار ذلك جنبا إلى جنب مع الاعتراض لدى المحكمة الدستورية العليا للنظر فى الأمر وإعادة فرز الأصوات وإعلان النتائج من جديد. وإزاء الضغوط الغربية بضرورة المطالبة بالشفافية وإعادة فرز الأصوات، اضطر الاتحاد الأفريقى إلى إعلانه التوسط فى الأزمة. فى الواقع، لا يختلف بينج كثيرا عن بونجو، رغم بعض التحفظات عليه، فبينج بالأساس ابن النظام الراهن، حيث كان حليفا قويا للرئيس السابق عمر بونجو - والد الرئيس الحالى - وعمل وزيرا فى حكومته، بل وتزوج ابنته «باسكلين» وأنجب منها طفلين، لكنه تمرد فيما بعد على ابنه «علي» وقدم استقالته من الحزب الديمقراطى الحاكم، حتى إن الاحتجاجات الراهنة سبق وأن عهدتها الجابون مع الانتخابات الرئاسية السابقة أيضا عام 2009 التى انتخب خلالها بونجو لفترته الأولى لخلافة والده. لكن ما يكسب الأمر زخما هذه المرة هو شبكة المصالح والنخبة السياسية فى البلاد التى باتت منقسمة على نفسها مؤخرا بدرجة كبيرة، والتفافها حول بينج للعودة للساحة من جديد والانتفاع منها. فبونجو منذ وصوله للسلطة حاول تحديث الاقتصاد الجابونى وتنويع مصادره دون الاعتماد على البترول فقط كشريان وحيد للبلاد، لكن فى ظل تردى أسعار البترول العالمية وانخفاض موارده تعطلت نتائج الإصلاح الاقتصادى حتى تصبح ملموسة لدى الشارع الجابوني، حتى أن جهود بونجو للتودد للشعب وإعلانه التبرع ببعض أصول وممتلكات أسرته لصالح الجابونيين وإنشاء صندوق يجمع التبرعات من المسئولين والنخبة لصالح البلاد لم تلق الصدى المطلوب فى الشارع، بل وبدأت تأخذ من رصيد بونجو السياسى وتنتقص من دعم الطبقة العليا بالبلاد له. فكانت النتيجة التفاف من تأخرت نتائج الإصلاح الاقتصادى فى الوصول إليهم مع من أثرت الإجراءات الجديدة على انتفاعهم المباشر من النظام، حول بينج، وهذا ما يعقد الأزمة هذه المرة على عكس سابقتها. وتعليقا على هذا يقول إيريك بينجامينسون السفير الأمريكى السابق لدى الجابون إن «بينج لن يكون بطل التغيير فى الجابون، فهو لا يمثل نظاما مختلفا بل فقط شخص مختلف». أما الاتحاد الأفريقي، الذى بات فى موقف لا يحسد عليه، فلن يرضى بإزاحة بونجو من المشهد بهذه الطريقة، وفكرة توقيع اتفاقية لتقاسم السلطة أصبحت مستبعدة الآن فى ظل الخصومة الواقعة بين بونجو وبينج، فالرئيس، فى المقابل، يتهم بينج أيضا بالتزوير فى العديد من المناطق من بينها العاصمة «ليبرفيل» ذاتها ويعتزم تقديم المستندات – على حد قوله - للقضاء. فهل يكون المخرج – على سبيل المثال - فى اتفاق القضاء مع الوسطاء الأفارقة بشأن وقوع تزوير من الجانبين، وبالتالى تتم الدعوة لانتخابات جديدة بإشراف مراقبين دوليين تكون نتيجتها حاسمة ونهائية لكل الأطراف؟ أم أن الطرفين سيبقيان فى عنق الزجاجة الحالى لفترة طويلة، بما يؤثر سلبا على الاستقرار الأمنى والاقتصادى والمجتمعى فى الجابون؟ فى كل الأحوال ، حل الأزمة الحالية يجب أن ينبع من الداخل، سواء الداخل الجابونى أو الأفريقي، لأن الحل، لو جاء من الخارج، وحسبما أثبتت التجارب الأفريقية السابقة، فإنه سيؤدى إلى النتيجة الأسوأ.