مستشفى 15 مايو التخصصي ينظم ورشة تدريبية فى جراحة الأوعية الدموية    اليوم، رئيس كوريا الجنوبية يلتقي السيسي ويلقي كلمة بجامعة القاهرة    تحذير عاجل من الأرصاد| شبورة كثيفة.. تعليمات القيادة الآمنة    رشا عدلي: أشعر بالفخر لكتابة رواية شغف.. ونجاحها إنصاف لزينب البكري    الصين تُبقي أسعار الفائدة دون تغيير للشهر السادس رغم مؤشرات التباطؤ    شاهد، أعمال تركيب القضبان والفلنكات بمشروع الخط الأول من شبكة القطار الكهربائي السريع    ترامب يرغب في تعيين وزير الخزانة سكوت بيسنت رئيسا للاحتياطي الاتحادي رغم رفضه للمنصب    أخبار فاتتك وأنت نائم| حادث انقلاب أتوبيس.. حريق مصنع إطارات.. المرحلة الثانية لانتخابات النواب    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 20 نوفمبر 2025    انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    تحريات لكشف ملابسات سقوط سيدة من عقار فى الهرم    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    زوار يعبثون والشارع يغضب.. المتحف الكبير يواجه فوضى «الترندات»    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    بيان سعودي حول زيارة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    كيفية تدريب الطفل على الاستيقاظ لصلاة الفجر بسهولة ودون معاناة    فلسطين.. تعزيزات إسرائيلية إلى قباطية جنوب جنين بعد تسلل وحدة خاصة    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    طريقة عمل البصل البودر في المنزل بخطوات بسيطة    يحيى أبو الفتوح: منافسة بين المؤسسات للاستفادة من الذكاء الاصطناعي    إصابة 15 شخصًا.. قرارات جديدة في حادث انقلاب أتوبيس بأكتوبر    طريقة عمل الكشك المصري في المنزل    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    مأساة في عزبة المصاص.. وفاة طفلة نتيجة دخان حريق داخل شقة    أسعار الدواجن في الأسواق المصرية.. اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    خبيرة اقتصاد: تركيب «وعاء الضغط» يُترجم الحلم النووي على أرض الواقع    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    بنات الباشا.. مرثية سينمائية لنساء لا ينقذهن أحد    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    مهرجان القاهرة السينمائي.. المخرج مهدي هميلي: «اغتراب» حاول التعبير عن أزمة وجودية بين الإنسان والآلة    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو خادشة للحياء ببولاق الدكرور    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    موسكو تبدي استعدادًا لاستئناف مفاوضات خفض الأسلحة النووي    بوتين: يجب أن نعتمد على التقنيات التكنولوجية الخاصة بنا في مجالات حوكمة الدولة    تأجيل محاكمة المطربة بوسي في اتهامها بالتهرب الضريبي ل3 ديسمبر    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    ديلي ميل: أرسنال يراقب "مايكل إيسيان" الجديد    بالأسماء| إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم ميكروباص وملاكي بأسيوط    فتح باب حجز تذاكر مباراة الأهلي وشبيبة القبائل بدورى أبطال أفريقيا    أرسنال يكبد ريال مدريد أول خسارة في دوري أبطال أوروبا للسيدات    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    تصل إلى 100 ألف جنيه، عقوبة خرق الصمت الانتخابي في انتخابات مجلس النواب    أمريكا: المدعون الفيدراليون يتهمون رجلا بإشعال النار في امرأة بقطار    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صائد الفراغ
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 09 - 2016

سأذهب هذا المساء إلى المقهى، وأمضغ الدخان الأسود الخارج من حلوق مرتاديه وأنوفهم. أفرغ ألمي في كوب الشاي الساخن، الثقيل الأسود، الذي يكاد يذوب في قطعة العتمة الراقدة عند ركن الحائط. أتابع قرقرة الماء في نرجيلة الرجل البدين، الذي يقهقه بصوت رفيع يؤذي أذني. أرسل عيني الوسيعتين بحثا عن رمضان. هذا النادل الأسمر القادم من صعيد مصر. يأتي ويضحك بوجهه، الذي يشبه رغيف خبز خارجا من أتون النار، ويقول:
نعم.
كوب شاي آخر.
ثقيل.
أسود.
يذهب ويترك يدي معلقة في جيب قميصي أحصي الدراهم القليلة التي أعطتها لي أمي على عتبات المساء. كانت يدها ترتعش، وعيناها تدمعان، وهي تمد النقود لتدسها في يدي الباردة. وسألتها إن كان هناك شيء يحزنها، فهزت رأسها بالنفي، وربتت على كتفي. لكني أعرف لماذا هي حزينة، ولماذا تذهب إلى الحمام لتغسل وجهها أكثر من مرة في الليل والنهار، لتخرج من حالة الضيق التي تنتابها كلما رأتني منزويا في صالة البيت، أحملق في الفراغ الممتد هناك في السماء البعيدة. لكن ليس لي ذنب في اكتئابها الذي تتعاطى من أجله قرصين من الدواء كل يوم، بناء على أوامر الطبيب.
وجارتنا الإماراتية الطيبة، التي تعاملني كابنها، قالت لها ذات ضحى غارق في شمس دفيئة:
هذا قدر الله.
فأجهشت أمي بالبكاء، وهي تداري انكسارها، وقالت:
.. ونعم بالله.
كنت أتابعهما وأنا جالس على طرف سريري وهما لا تلمحانني. وسمعت أمي تسألها:
ملعقة سكر واحدة؟
فردت ضاحكة:
خفضها الطبيب إلى نصف ملعقة.
وخرجت من غرفتي إلى المطبخ، فواجهتني مبتسمة وقالت:
تناول إفطارك لتشرب معنا الشاي.
وتناولت ملعقتين من عسل النحل المصفى، وملعقة من زبدة الفستق، قبل أن ألتهم شطائر الخبز والجبن. كانت هذه الملاعق جزءا من العلاج. فبعد أن قرأت أمي ذات يوم في إحدى المجلات الطبية مقالا عن الأغذية التي تساعد على تنشيط وظائف المخ، أصبحت هذه الملاعق مقررا يوميا، خلافا لكبسولات صفراء وبنية قررها الطبيب لتمنع النوبات الحادة التي تهز خلايا جسدي المنهك، وتأخذني إلى عوالم من النسيان والغياب.
قوة خفية تسحب روحي إلى البعيد وتجزئ الناس أمامي إلى قطع صغيرة. أشلاء من لحم لا يقطر دما. ملامح تتباعد حتى تغور في قيعان لا نهاية لها. ألوان صفراء وبرتقالية لا تلبث أن تسود تماما، رغم أن عيني مفتوحتين إلى أقصى حدهما. فمي يزبد ويرغي، وصدري يفور. أتقلب وأجأر كحيوان يذبح. أسناني قابضة على لساني، وأنيابي وقواطعي سكين يكاد أن يبتره، لولا اليدان القويتان اللتان تقبضان على فكي وتخلصان قطعة اللحم الطرية، التي تربطني بالعالم، من الموت.
نعم تربطني بالعالم، فالجمل البسيطة المفككة، التي تتماوج وتتوه كلماتها في عناء استدعائها من ذاكرتي المجهدة، تجعلني أستطيع الحصول على الشاي في المقهى، وتمكنني من أن أقول لأمي أن الدواء يصيبني بخمول ويضعني أحيانا على حافة الغياب، وتجعل باستطاعتي أن أقول لأبي العائد من الكدح في إحدى الدوائر الحكومية بأبوظبي أنني أريد هاتفا متحركا كأخي، وأصرخ ذات مساء في وجوههم جميعا وأقول:
أريد أن أعود إلى عدن.
لكن أمي أخذتني كطفل رضيع في حضنها، وقطرات دموعها تسح على وجهي، وقالت:
لا بد أن نبقى هنا عدة سنوات.
لماذا؟
لأنك تحتاج إلى عملية جراحية تكلفتها لا تقل عن عشرين ألف دولار.
ورحلة الحصول على الدولارات طالت. فأغلب ما يتحصل عليه أبي وأمي وأخي من أعمالهم يذهب لسد احتياجاتنا اليومية، وثمن إيجار الشقة التي تطل على حديقة الخالدية، وفاتورة الهاتف الذي يرن كل أسبوع لنصف ساعة كاملة في عدن فيطمئننا على أهلنا هناك، وثمن الشاي الذي أحتسيه في المقهى لأنه ينبه الخلايا غير الميتة في رأسي.
وذات يوم تراءى لي أن أبحث عن عمل لنختصر رحلة الحصول على مصروفات علاجي. وسألت الرجل السوداني فارع الطول الأسمر الذي تناديه زوجته دائما يا أبو خضر وفي المقهى ينادونه «يا زول»، إن كان هناك عمل لي في البلدية. نظر إلي من عليائه وسألني:
هل تجيد القراءة والكتابة؟
تهللت أساريري وأجبت:
نعم.
وعاد يسألني:
كم عمرك؟
ثلا.. ثلاث .. وعش .. وعش .. روون.
صمت برهة ثم سأل مرة ثالثة:
هل أنت متزوج؟
لا .. لا..
وراح يكرر الأسئلة ويجمع إجاباتي المتلعثمة التائهة ويحملق في بحيرتي عيني . فجأة هز رأسه و ربت على كتفي في شفقة و مضى. وسألت نفسي عما إذا كانت عيناه الثاقبتان تخترقان جمجمتي وترى الجزء الأيسر المتيبس العاجز أو أنه قد غاص في قاع عيني فرمق ما تحقق منه الطبيب ذات مساء. وضع تليسكوبه الصغير وهز رأسه تماما كأبي خضر وراح يحدث أبي المنكسر .
لكن «أبو خضر» لا يعلم أنني أمارس كافة المهن حين أغمض عيني في النهار الأبيض أو أحملق في الصور المعلقة بجدران صالة شقتنا الوسيعة. أما في الليل فلا أمارس سوى بعض حب عذري لفتاة قمرية دافئة تجالسني وعيناها مملوءتان بتألق النشوة والافتتان. وحين أفتح عيني في الصباح أتذكر أنني كنت عاجزا حتى عن تقبيلها، لكنني أتشبث بالفراش لأستعيد صورا مبعثرة لفتاة الليل الحسناء .
لم تكن سوى تلك البنت الجميلة التي اقتربت مني قبيل الغروب وأنا جالس على كورنيش الخليج، ظهري لنافورة تغيض وتفيض فتصنع نخيلا وأشجارا، ووجهي للماء المسافر إلى العراق حيث عمي الذي لا نعرف عنه شيئا منذ حرب الخليج. رأتني وحيدا وشاردا وحالما، فاقتربت مني. نظرت إلى الساعة السوداء في معصمي الأبيض وسألتني:
كم الساعة؟
فوزعت بصري بين العقارب المتقاربة برهة، ثم رفعت رأسي إلي وجهها الفياض بالبشر والروعة وأجبت:
ست .. ستة.. إلا .. إلا .. ربع.
سألتني عن جنسيتي واسمي وعملي، ثم جمعت حصيلة إجاباتي المبعثرة في قبضتها ونثرتها في النسيم المتدفق فوق مياه الخليج ومضت دون أن تنطق بكلمة واحدة. وحكيت لأخي جهاد عنها ونحن نخلد إلى النوم فأعطاني ظهره وقال:
نم.. أريد أن استيقظ مبكرا.
فقلت له غاضبا:
لكن غدا إجازة.
فرد وهو يعدل من وضع الوسادة تحت رأسه:
سأذهب مع أصدقائي في نزهة .
ثم أغمض عينيه وتركني والحزن ينشب مخالبه الحادة في روحي فيأكلها. أردت أن أساله لماذا لا يصطحبني معه، لكنه أسدل جفنيه وراح في سبات عميق. تركت مخدعي وذهبت إلى أمي وأبي لأتحدث معهما، ولما اقتربت من غرفتهما سمعت غطيطا متلاحقا، فعدت إلى سريرى، لكن النوم لم يأت أبدا. ذهبت إلى صالة البيت وبدأت أمارس لعبة الحملقة في الفراغ.
قلت في نفسي لا بأس، في الصباح سيذهب أبي وأخي إلى العمل وأمي ستعود جارتنا الطيبة التي زاد عليها مرض السكر أمس فدخلت في غيبوبة، ونقلت إلى المستشفى. قلت لها أن تأخذني معها، لكنها رفضت وقالت:
أنت رجل، وممنوع أن تدخل عنبر النساء.
واغتبطت لقولها، وذهبت إلى مرآة الحمام، وتحسست شاربي المقصوص والشعر النابت في ذقني العريض، وغرقت في موسيقي صوت البنت التي سألتني عن الساعة، وأردت أن أسرد على أخي حكايتي القصيرة العذبة عنها، لكنه تركني ونام.
قمت إلى غرفة نومي، وارتديت ملابسي على هدى النور المتسرب إلى دولابي من لمبات الشارع المتراصة، وخرجت إلى المقهى. كان جالسا في مكانه المعتاد يحتسي القهوة، وعيناه تلتهمان سطور صحيفة «الخليج». رفع رأسه فرآني قادما، فامتلأت قسماته بابتسامة رائقة، وقال جملته المعتادة:
أهلا يا زياد.
أقول لأمي إنه صديقي، فلا تعلق. أخي نهرني ذات يوم، وقال لي: إنه في مثل سن أبيك، ويعمل في مهنة مرموقة، فكيف يكون صديقك. ملأني غيظ لم ينفض إلا حين قلت له من دون ترتيب:
نحن أصدقاء .. أليس كذلك.
فرد من دون تردد:
نعم.
وحكيت له عن البنت التي سألتني عن الوقت، ومياه الخليج المسافرة إلى العراق. تاه مني في شرود طويل وقال:
العراق…
مط الكلمة حتى تخيلت أن حروفها لن تجد حدا تقف عنده، وسألته:
منذ متى لم تذهب إلى العراق؟
فرد حزينا:
منذ عشرين عاما كاملة.
كان قد قال لي مرات عديدة أنه خرج ليلا من بغداد، وإنه لم ير أهله منذ عشرين سنة، لكني لا أعرف لماذا أكرر السؤال، ولماذا يجيبني حزينا. الليلة فقط حكى لي كلاما في السياسة. لم أفهم سوى كلمات متفرقة عن شعب محاصر وأهل مشردين. وفي طريق عودتي إلى البيت، بعد أن أغلق المقهى أبوابه، تذكرت أنه لم يعلق على حكاية البنت التي رأيتها حين كانت الشمس تغيب. لكني استعدت تفاصيل الحكاية في الصالة المعتمة مرة أخرى.
لم يفارقني الضيق من أخي وأمي فلم أبلع في اليوم التالي أقراص الدواء عقابا لهما. نزعتها من الشريط الفضي اللامع، وألقيت بها في الحمام، لأضلل أمي التي تعد الأقراص علي، كما كانت تفتش عن الواجبات المنزلية السخيفة التي كان المدرسون يلزمونني بها، حتى عجزت عن متابعة معادلات الكيمياء ونظريات الهندسة وقواعد النحو، فتركت المدرسة قابضا على حروف الهجاء وجدول الضرب وكثير من قصائد الشعر.
وحين حل المساء تلاعبت برأسي تهويمات زلزلت كياني، وذهبت إلى المقهى لأحتسي الشاي الثقيل، وأمضغ دخان النراجيل، لعل شيئا من الاتزان يعود لي. لكنني غصت في قيعان بعيدة، وانشطر الوجود أمامي حتى غاب تماما عن عيني المنبلجتين إلى حافة الموت. وسقطت على الأرض، لساني بين فكي وجسدي يتمرغ على البلاط البارد. حين أفقت وجدت الناس حولي، بعضهم ينظر إلي في أسى. آخرون جثوا على ركبهم يدلكون رأسي الثقيل. وسط زحام أجساد الرجال كانت أمي جالسة عند صدري ويداها ممدودتان تضربان وجهي في حنان ووجل.
أخذتني إلى بيتنا الذي لا يبعد عن المقهى سوى أمتار معدودة. راجعت شريط الدواء وامتلأ وجهها بالحيرة. جرت إلى الهاتف، وقالت للطبيب:
زياد تناول الدواء ومع ذلك جاءته النوبة وكانت شديدة هذه المرة.
وضعت السماعة، ونظرت إلي في أسى وقالت:
الطبيب نصح بزيادة الجرعة ..
لكني في صباح اليوم التالي اعترفت لها بأنني لم أتناول الدواء، لأنها تركتني ونامت، ولم تستمع إلى حكاية البنت التي كلمتني عند الغروب. امتلأت عيناها بالدموع، وأخذت رأسي على صدرها، وراحت تربت على ظهري، وتمسح شعري الناعم بأصابعها النحيفة، التي كانت بضة قبل أن يقول لها المدرسون إنني في حاجة إلى تغيير مسار تعليمي.
كان يوما قاسيا عليها. جادلت أبي طويلا ونامت حزينة. صباح اليوم التالي أمسكت دليل الهاتف وراحت تفتش عن مدارس التربية الفكرية ومراكز تعليم ذوي الاحتياجات الخاصة. لكن أبي رفض. لا أدري لماذا يشعر أحيانا بالعار، مع أن صديقي العراقي قال له ذات يوم إن أينشتين كان مصابا بمرض نفسي وعقلي وتشرشل كان يعاني من نشاط حركي مفرط ونقص في الانتباه، وجون ناش عالم الرياضيات الذي حاز جائزة نوبل كان مريضا بالفصام. لكنه قال لأمي إن كل واحد من هؤلاء كانت لديه موهبة خارقة في مجاله، وإن كان يعاني قصورا في بقية المجالات. وكنت وقتها خارجا من غرفتي أطرد النوم عن جفني الثقيلين فقلت له:
أنا أحب الشعر.
فردت أمي:
أنت تقرأ الشعر لكن لا تكتبه.
وكتبت قصيدة من عشرين بيتا. شعر حر انساب على الورق في عشر دفقات متتابعة. ودفعت بالقصيدة في خطاب إلى صحيفة «الاتحاد»، ورحت أنتظر. كل يوم أذهب إلى المقهي، أستعير الصحيفة من أي من الجالسين، وأتصفحها سريعا. أصل إلى الصفحة الثقافية. أجوب الأعمدة والسطور، وأطالع قصائد الآخرين لكن قصيدتي لم تكن بينها أبدا.
لا القصيدة نشرت ولا أنا تخليت عن حلمي. أتابع الصفحات المفرودة عن آخرها من دون جدوى، فأعود إلى البيت منكسرا. أجد الجميع قد ناموا حتى يستيقظوا مبكرا، فأخلو إلى متاهاتي الغائمة، وتتهادى من بعيد أطياف حكايات قديمة، فيحل الشجن، وتتسلل الدموع حتى تبلل الأوراق التي وضعتها أمامي على طاولة الطعام من أجل أن أكتب قصيدة جديدة.
وعرضت القصائد على صديقي العراقي، فنصحني أن أقرأ شعرا كثيرا، وكتب لي عشرة أسماء لشعراء كبار، وقال:
حاول أن تقرأ أعمالهم الكاملة.
................................
وذهبت صباح اليوم التالي إلى المجمع الثقافي. سألت أمين المكتبة الجالس أمام جهاز الحاسوب المعبأ بأسماء المؤلفين وعناوين الكتب:
أين قسم الشعر؟
كان سؤالي ممطوطا وتائها فامتلأت عيناه بالحيرة وسألني:
هل أنت طالب؟
قلت:
لا.
فعاد يسأل:
موظف؟
لم أرد، واكتفيت بنظرة كسيرة ولسان عاجز، فقال:
سجل اسمك في دفتر الزوار، وهاهو قسم الشعر.
أشار إلى لوحة صغيرة معلقة في سقف باحة المكتبة الوسيعة، مكتوب عليها «الشعر العربي»، تتدلى من حبل، وتحط على رأس الدواوين المرصوصة. رحت أقلب بحثا عن واحد من الأسماء العشرة. التقطت ديوان «هي أغنية» لمحمود درويش، ورحت أمشي تجاه المقاعد التي يتراص عليها القراء. يضعون الكتب على المناضد الطويلة اللامعة، ويدفعون أعينهم إلى السطور المتتابعة.
قبل أن أصل إلى تلك المقاعد لمحت لافتة مكتوبا عليها «علم النفس»، مدلاة هي الأخرى من سقف المكتبة. وجدتني متوزعا بين الأرفف أبحث عن وجعي، حتى وضعت يدي عليه، كتاب كبير الحجم عن «الصرع». قبضت عليه، وتاه مني ديوان الشعر بين كتب علم نفس الطفولة، مع أنني لست طفلا. هكذا قالت لي أمي حين طلبت منها أن أحتفل بعيد ميلادي. كنت قد أخبرت صديقي العراقي أنني سأستضيفه بمنزلنا في هذا اليوم واقدم له كوبا من عصير الجوافة الذي يحبه، لكن أمي رفضت وقالت في حزم:
لم تعد صغيرا لمثل هذه الأشياء.
قلت لها إن هذا يفرحني، وأنني أحب أصحابي القلائل، وأنني سأكون سعيدا حين يطفئون الشمعات الثلاث والعشرين، ويصفقون لي. لكنها أصرت على موقفها، مع أن أحدا لم يصفق لي منذ زمن. كانت آخر مرة احتفلت بهذه المناسبة قبل سبع سنوات. يومها كانت شعيرات فاحمة السواد قد حطت بين أنفي وشفتي العليا، وأخريات يتناثرن على ذقني. كانت أمي تنظر إلى هذه الشعيرات على ضوء الشموع اللاهثة. ولما أطفأناها أخذتني في حضنها، وبللت وجنتي بدموعها. يومها لم أكن قد رأيت البنت التي سألتني عن الساعة، ولم أكن قد تعرفت على صديقي العراقي، ولا لفظتني المدرسة.
في طابور الصباح أخذت أوزع قطع الشيكولاته على زملائي، فيقولون لي: كل سنة وأنت طيب. ورآني مدرس التربية الرياضية، فضربني على راحتي بعصاه التي يخافها كل الطلاب. وقلت له إن عيد ميلادي كان بالأمس، وأنني أحضرت له قطعة كبيرة من الحلوى، فاكتسى وجهه بالحزن. ربت كتفي واعتذر لي وطلب مني أن أمر عليه بعد انتهاء الطابور. وحين رسبت في نهاية العام قال لي:
لا يهمك .. ستنجح العام المقبل.
لكنني لم أتمكن أبدا من عبور الصف الثالث الإعدادي. عبره أخي جهاد الأصغر مني بعام واحد، وحصل في النهاية على معهد فوق المتوسط، ثم صار موظفا. في الصباح يستيقظ مبكرا، ليعد نفسه للذهاب إلى العمل. أنا أكون نائما، لكني استمع إلى صوت سعاله وتمخطه في الحمام وقرقعة قدميه الرائحتين الغاديتين إلى الداخل والخارج في صالة البيت الطويلة، حتى يمضي مخلفا وراءه فراغا يتسع حين يتبعه أبي وأمي. أدفن رأسي في الوسادة الطرية وأغسل دموع الأمس بدموع اليوم حتى يوقظني آذان الظهر، الذي ينساب من حنجرة ندية عذبة، تملؤني خشوعا وأملا. أستيقظ فلا أجد شيئا أفعله إلا أن ألعب «السوليتير» على الكمبيوتر، حتى يصيبني الملل. وحين يعود الجميع بعد الظهر يجدونني متجمدا مكاني أحملق في الفراغ، أو في الصور المعلقة على الجدران.
الصورة التي تواجه الكرسي الذي أفضل الجلوس عليه، دائما ما كانت تأخذ بصري وتفكيري إلى عوالم سحرية، ترتسم في المساحات الفاصلة بين أضلعها الأربعة وبين مكاني الغارق في الدفء من طول الجلوس.
هذه المرة انتبهت إلى أن الصورة لحديقة صغيرة غنّاء، تطل على بحيرة رائقة، تعانق السماء في البعيد، ووسط الشجر تزخ نافورة صغيرة مياها تذوب في الهالات الزرقاء، وتحط على ثلاثة مقاعد خشبية متجاورة فارغة.
وحملقت فوجدت نفسي جالسا على المقعد الأول وفتاتي القمرية على المقعد الثالث. أما المقعد الثاني فامتلأ بأشياء غامضة، كانت تختبئ في البداية وراء تلافيف الشجرة المجاورة، ثم لم تلبث أن أصبحت جليّة كمنتصف نهار مشمس، حين استقرت بيننا.
لم تكن سوى صفحة كاملة من جريدة تتراص فيها أبيات من الشعر، يعلوها اسمي، ببنط أسود عريض، ومبنى كبير أبيض، تتمدد على مدخله لافتة مكتوب عليها «بلدية أبو ظبي»، ومبنى آخر عليه لافتة باللغة الإنجليزية تدل على أنه مستشفى لجراحات المخ والأعصاب.
مددت يدي من بين المباني وصفحة الشعر وأمسكت بيدها. كانت طرية ساخنة، كرغيف خبز خارج لتوه من النار، فأشعلت في جسدي رغبة جامحة، راحت تخطفني إليها خطفا، حتى وجدت نفسي أطوقها بذراعين كاملتين، وأمطرها تقبيلا في كل وجهها، بعنف كاد يسقط اللوحة من جدران صالتنا الكبيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.