طقوس السعادة كم أنا سعيد لأني سأصحو مع المنبه كالمعتاد، ناسيا تماما أي كابوس كان في المنام. سآكل كيس البطاطس الصغير، وأشرب ربع الراندي مع ثلاث سجائر. في الساعة الفاضلة قبل الخروج. خلالها سأسمع بعض أغاني المفضلة، وأضاجع واحدة من محارمي، وأكسر الكوب الزجاجي دون قصد، وأكلم الله قليلا في مسائل شخصية .كم أنا سعيد لأني سأتجلي للشارع بعينين ضيقتين، وفروة رأس منملة، وابتسامات كثيرة غير مبررة، وصوت عال، وسأصعد إلي مكتبي ب (اثنين فول وواحد طعمية) وسأصنع شايا لي ولزملائي الاخيار، الذين يجيدون التسويف، والشكوي، والحياد كم أنا سعيد لأن يوم العمل سينتهي، ولأن زميلتي ستقول (كنت مرحا اليوم).. هي نفسها التي قالت أمس (كنت حزينا اليوم). هي نفسها التي تغير قناعاتها يوميا.. ولأن بعضهم سيلوح لي، وأنا ذاهب، بما يعني وداعا مؤقتا، ولأني سأرجع شقتي بسندوتشين لهما رائحة مطابخ البيوت بعد الظهر، ولأني سأنام القيلولة، وسأصحو من القيلولة، وسأشرب ماء وشايا وبراندي وسجائر، وسأخرج إلي الندوة، أو إلي المقهي، أو أبقي جالسا تحت مروحة الصالة، أقرأ. كم أنا سعيد لأنه لم يزل في الثلاجة ربع براندي لجلسة الصباح، ولأن النوم سيناديني، وسأجيبه بلا تهيب من أن يأتيني فيه كابوس، ولأني لم أعد مشغولا بأن أمي ماتت زعلانة مني، ولا بأن أبي غير مرتاح لي،ولابأني طلقت زوجتي الأولي لأن حبلها الشوكي قطع في حادث، ولابأني طلقت الثانية، فغطت وجهها بالنقاب، وراحت تقول لحريم الشارع أن المجتمع كافر جدا. أنا سعيد للغاية، لولا أني - أحيانا - أنتظر المغازلات - التي لابد منها - للقدر - المخبوء حتما، في مكان قريب - والتي قد تضرب وئامي هذا في مقتل. الرحمة تذكرت، يلا أية مقدمات، أنا الكهل الآن، أني وقعت في غرام زوجة عمي زعبللة بتاع الطعمية، حين كنت في الثالثة عشرة. لماذا تقلب اللحظات ذكرياتنا البائدة، بغتة، ودون تفسير؟ كنت نصف مستلق. أمامي، يمنيا، شاشة الكمبيوتر تظهر (أجمل أهداف النادي الأهلي في التاريخ) استحضارا لروح أبي.. وشمالا، شاشة التليفزيون تعرض فيلم رعب ليوسف وهبي، تخليدا لذكري أمي.. وبين يدي رواية (الموت في فينيسيا) في محو ذكري زوجتي. كنت أترك مطعمين قريبين، وأروح إلي عم زعبللة البعيد، لأراها واقفة وراءه، صامتة، لها عينان تربكان، مثل عيني اليزابث تايلور في فيلم (كليوباترا)، وجسمها مشدود كنخلة، تناول الناس أكياس السلاطة، وأرغفة الخبز.. وكان عم زعبللة يعطيني قرطاس الطعمية، ويقول (سلم علي بابا)فيما أنا أبعث لها رسالة واضحة في نظرة (مش عاوز حد غيري ينام في حضنك).. ويبدو أن نظرتي كانت تطول أحيانا، لأن عم زعبللة كان يلتفت ليسألها (هو مخدش سلاطة؟) .... كنت أحيانا أبكي بالدموع، علي سريري، في الظلام، لما أتخيل أنها وعم زعبللة عاريان الآن، وأنه يفعص جسمها كما يشاء، وأنها مبسوطة. بعد فترة، مرض عنم زعبللة بالكبد، فاغلق المحل. وبعد فترة، مات، فاختفت حبيبتي كنت أعلم أن رسالتي لم تصل أبدا، لكني بقيت مخلصا لها - حتي دون أن أنتبه - إذ أحببت، بعدها، معلمة الانجليزي في الاعدادي، وموجهة الفيزياء في الثانوي، وعاملة النظافة بالمستشفي الأميري حيث كان أبي محجوزا لجراحة الفتاء. والمرأة التي تبيع البطيخ غالي الثمن أمام مسجد الجمعية الشرعية، والبنت التي تنشر الغسيل في بلكونة الطابق الأول بالبناية المواجهة لمحطة عين شمس، حين كنت في الجيش كن جميعا يشبهنها، هي التي لم تأت علي بالي، ولو خطفا، كل هذه السنين، أرملة عمي زعبللة المختفية، أول الطابور، الشبح الذي اقتحم لحظة مقسومة علي ثلاثة، لتلتئم له وحده، مثل ميت لم يعد يذكره محبوه، فظل يتحايل حتي دخل فم أحدهم مع الهواء، فجاء اسمه علي لسانه وسط الكلام، خارج السياق تماما، فأشهر الباقون إيمانهم: طلب لنفسه الرحمة. الفيلم كنت واقفا، وسط المتطلعين إلي أعلي بفزع صادق، أفكر في أن السينما تصنع المعجزات. ولابد أن الرجل الواقف، متحفزا، علي حافة سطح المبني العالي، قد شاهد الفيلم، ولابد أن بعض المترقبين، حولي، لايعرفون شيئا عن الفيلم كلما فرد الرجل ذراعيه، ورفرف، تعالت الشهقات. لم أسمعها شهقات رعب في مواجهة هذا الطائش الذي قد يفقد حياته، منتحرا، في أية لحظة إنما هي الشهقات، التي كانت تملأ صالات السينما فجأة، حين يتعرض بروس لي أو أميتاباتشان أوجيت لي ، لمكروه عارض. كنا نراهم ينزفون من أنوفهم، وأفواههم، وننصت لصوت تكسر عظامهم، لكن شيئا ماداخلنا - لعله موهبتنا غير المكتشفة في الاخراج - يؤكد أنهم سينتقمون،نظرت، فتوقعت أن الرجل سيعلن، متحديا: لو كان فيكم راجل يطلع لي فوق عندئذ حل بي الشك تداخلت مشاهد كثيرة مشوهة من أربعة أفلام دفعة واحدة حدقت في الوجوه المحيطة، كأنما أخاف أن يكونوا قد كشفوا حقيقتي. لم يكن مشهد انتحار. كان رجلا يستعرض قوته. وكان يدعوهم لقتال علي بسطة السلم، وليس علي سطح المبني العالي. بدأ الناس انصرافا محبطا. الرجل نفسه ذهب، دون ان ينتحر وامتلأت يقينا بانه لم يكن مشهدا أصليا. كأن يكون المخرج قد طلب منهم أن يصوروا فيلما في الفيلم.