يحتل الإنسان في الإسلام، كشريعة توحيدية، موضع الخليفة الأرضى، أى القطب الثانى للوجود، الذى خُلقت الأرض لأجله، وأُمرت الملائكة بالسجود له، حتى إن الملاك الذى رفض ذلك (إبليس) حرم من الملكوت الإلهى، واعتبر رمزا مطلقا للشر، فيما استمر آدم، بعد هبوطه إلى الأرض بفعل الغواية والخطيئة، متمتعا بعناية الله. نعم يحكى القرآن عن خطيئة آدم وحواء والأكل من الشجرة، غير أنه لا يعتبرها خطيئة أصلية تلتصق بكل إنسان منذ لحظة الميلاد، وتتابع النوع البشرى الذى بات، من جرائها، ذا طبيعة فاسدة محكوم عليه بالدونية، بل إن آدم نفسه الذى ارتكب الزلة الشيطانية، أصبح أول الأنبياء. أما خروجه من الجنة فلم يكن سقوطاً بمعنى الكلمة بل ذريعة لتوسيع الأفق الإنسانى وإضفاء معنى على الوجود البشرى. وهنا يميز الطبرى فى تفسيره للقرآن الكريم بين الأمر الإلهي والمشيئة الإلهية، فالأمر بطبيعة الحال إما أن يطاع وينفذ وإما أن يُعصى، وللمأمور الخيار فى ذلك. أما المشيئة الإلهية فلا تنطبق عليها مثل هذه الاعتبارات لأنها بطبيعتها لا تُرد، وكل ما تتعلق به واقع بالضرورة. لقد شاء الله وجود أشياء كثيرة غير أنه أمر عباده بالابتعاد عنها، كما أمرهم بأشياء ولكنه أرادهم أن يحققوا أشياء أخرى، وقد أمر الله إبليس بالسجود لآدم ولكن شاءت حكمته أن يعصى الأمر، ولو شاء الله لإبليس أن يقع ساجدا لوقع ساجدا لتوه إذ لا حول ولا قوة لمخلوق على رد المشيئة الإلهية. فى هذا السياق ينتفى فى الإسلام ذلك الشعور المبدئى بالإثم والدونية الناجم عن الخطيئة الأولى والسقوط من الجنة، بينما تبقى الخطايا العادية والأخطاء اليومية، أى كل فعل سيئ يقوم به الإنسان، يخالف فيه تعاليم الله وغاياته فى الوجود. هذه الخطايا ليست أزلية بالقطع، ولا موروثة عن أحد، فالمسئولية في الإسلام فردية، ومن غير الجائز أن يحاسب إنسان على جريرة آخر مهما كان حجمها، ومهما كان موقع مقترفها فى قومه سواء كان أباً لفرد، أو شيخا لقبيلة، أو حاكما لشعب، أو قائدا لأمة «ولا تزر وازرة وزر أخرى». كما أنها ليست حتمية بأى معنى، فالمصاعب والاختبارات تواجهنا كل يوم وربما كل ساعة، ننتصر عليها ونتجاوزها أحيانا، ونقع فى شراكها لضعف إرادتنا أو قوة شهوتنا أحيانا أخرى. ولكن وقوعنا فى الخطيئة لا يعنى هلاكنا الأبدى ولا خروجنا من الملكوت الإلهى، بل يعنى فقط حاجتنا للتوبة إلى الله. وإذا كان الحساب النهائي يخضع لمشيئة الله وحده، وله فيه ميزان عدل لا يخطئ، فهو ينصب كذلك على عمل المسلم وحده، الذى ربما أصاب فينجو، وربما أساء العمل، وعندها يكون أمره إلى الله ورحمته التى تسبق عدله، فالله هنا هو واسطة المسلم الوحيدة إلى ذاته العلية بواسع رحمته بعد ميزان عدله، ما دام العبد قد أسلم وجهه إلى ربه فلم يشرك به أحدا.. قال تعالي: «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» (النساء: 48). ومن ثم تتنازل فكرة الخلاص عن مركزيتها التى كانت لها فى المسيحية، وتعود إلى حجمها الطبيعى؛ مجرد فكرة تنتمى إلى عالم الغيب، ترتبط بمفهوم البعث الأكثر مركزية في الدين التوحيدى. كما ينتفى مفهوم (المخلص) الذى يبعث لإنجاز الفداء، كما تنتفى أى هيئة تدعى تجسيده أو وراثته، ولهذا لم يخاطب القرآن أبدا أى سلطة روحية. ورغم أنه حثَّ المؤمنين علي الدعوة إلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لم يدع أحدًا إلي تنصيب ذاته حَكَمَاً أو جلادا أو رقيبا علي سلوك الناس بما هو عليه من إيمان وتقوي، بل اقتصر علي التحذير والإنذار ووضع القواعد الفاصلة بين ما هو مسموح ومستحسن، وما هو محظور ومكروه في سلوك البشر: «قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم، فمن اهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل» (يونس: 108). وقد كانت وسيلته الترغيب والترهيب «أولئك هم الخاسرون»، »أولئك أصحاب النار«. ولم يترك شكًّا في أن مسألة العمل بتلك الأحكام تعود إلى الناس. وهكذا يصبح الخلاص فى الإسلام بالإيمان والأعمال معا، وقد أسهب القرآن فى ذكر الأعمال والممارسات الصالحة، التى يجب على المسلم القيام بها؛ تحقيقا لخلاصه الذاتى، حيث تتعدد طرق التكفير عن الذنوب وعلى رأسها العبادات خصوصا الصلاة التى تمحو السيئات بل تنهى عنها كنوع من الوقاية يسبق العلاج حيث يقول القرآن الكريم: «وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين» (هود: 114). ثم الصدقات أو «الكفارات» وقد وردت كلمة «كفارة» أربع عشرة مرة فى أربع عشرة آية من آيات الذكر الحكيم. وأولي هذه المرات العديدة هو ما نطق به المصحف الحكيم عندما أشار إلى المؤمنين بما نصه: «إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير» (البقرة: 271). فى هذا السياق لا تعدو فكرة التضحية فى الإسلام حدود الواقعة الخاصة بالفداء الإلهي لإسماعيل عليه السلام عندما قرر نبى الله إبراهيم أن يذبحه طاعة لأمر الله، وهو ما يرويه القرآن كحدث تاريخى، ويدعو المسلم إلى إعادة تمثله فى الرحلة إلى بيت الله الحرام، حينما يقوم الحجاج، ويتجاوب معهم المسلمون جميعا بتقديم أضحية حيوانية (خروف بالأساس) كإعادة تمثيل رمزية لقصة الفداء، بحيث يستعيد المسلم وعيه التاريخى بمسار الدين الإبراهيمى وشرائعه السابقة، ومن ثم يكاد الأضحى يكون عيدا لكل المؤمنين، خصوصا لإخوتنا الأقباط، شركائنا فى الله الواحد، والوطن الواحد.. كل عام والمصريون جميعا بكل خير ومحبة ووحدة. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم