ثمة اتفاق بين الأديان على أن الإنسان ليس أزليا ولا خالدا، لا قديما ولا سرمديا، بل عابر ومؤقت، مخلوق وفاني، مولود وميت، الأمر الذى يضعه فى مرتبة أدنى من الله قطب الوجود الأول، خالق الكون والإنسان نفسه، والذى يتمتع بكل الصفات المتسامية، ولكن اختلافا كبيرا يثور بينها حول مدى خضوع الإنسان لله، وهنا تتبلور ثلاثة أنماط أساسية للعلاقة بينهما: النمط الأول يسلب من الوجود الإنسانى أى قيمة، حتى يكاد يقترب من العدم، ويصير جوهرا للشر والنقص. والسر فى ذلك يكمن فى تلك الرغبة المحمومة فى تعظيم الوجود الإلهى، وهو ما لا يتحقق إلا بتحقير الإنسان. يتجسد هذا النمط أساسا فى الأديان الهندوسية، عدا البوذية، حيث يمثل البراهمن روح الوجود الذى انبثق من الإنسان كما الأشياء، والذى حتما سيعود إليه بعد انتهاء دورة الحياة. كما يتجسد جزئيا فى تيارات الزهد داخل الأديان السماوية، حيث القبالاة اليهودية، والرهبنة المسيحية، والتصوف الإسلامى المغترب، تميل إلى شل فعالية الإنسان وتحقير حضوره أمام خالقه، والنظر إليه باعتباره مفعولا به، مقهورا دائما،. أما النمط الثانى منها فيميل إلى توكيد الإنسانى فى مواجهة الإلهى، حتى تصير هناك إمكانية لإقامة تعادلية وجودية من طراز ما، تقود إلى تفاعل من موقع الندية بين الله والإنسان، ولعل هذا النمط هو ما تجسد فى الدين اليونانى القديم (الميثولوجيا اليونانية)، خصوصا فى رائعتيه: الإلياذة والأوديسا، بتوكيد هوية إنسانية مريدة تتحدى إرادة الآلهة، بأكثر الصور درامية وعنفا، على النحو الذى أبرزته أسطورتا: بروميثيوس، وأوديسيوس الذى تمكن بمعاونة الآلهة الأخيار، من العودة سالما إلى بلدته أوديسا. ذلك موقف نفسي شجاع لدى الفكر اليونانى، يمثل إلهاما للنزعة الإنسانية فى الفكر الغربى الحديث، التى أخذت تنمو منذ عصر النهضة، ترافقا مع إحياء الأدب اليونانى اللاتينى، وازدهرت بهبوب رياح التنوير. ولكنه، من ناحية أخرى، مثل جذرا للتيار الهامشى المادى/ الملحد فى متن التنوير العريض، والذى تعالى صوته بين منتصفى القرن التاسع عشر، والعشرين، خصوصا فى الفكرين: الألمانى عبر متتالية ماركس فيورباخ نيتشه فرويد هيدجر، أو فى الفكر الفرنسي عبر متتالية بايل كونت سارتر. ويرجع هذا الأثر السلبى للميثولوجيا اليونانية إلى أنها قد تأسست على مقدمتين خاطئتين: أن ثمة آلهة وليس إلها واحدا. وأن تلك الآلهة لا تعرف الرحمة والعدالة. أما النمط الثالث فيمنح للوجود الإنسانى بعض القيمة، فالإنسان ليس عدما أمام الله، ولكنه أيضا لا يتعادل وجوديا مع الله، إنه وجود حقيقى لكن مقيد، أمام الوجود الإلهى المطلق. يملكا نوعا من المشابهة مع خالقه، ولكن من دون التجرؤ على مساواته: ففي الإنسان خير ولكنه ليس خيرا خالصا كالخير الإلهى، وفيه نزوع إلى الكمال، ولكنه نزوع غير قابل للاكتمال، فالإنسان مزيج من الخير والشر، الكمال والنقص. وعلى هذا الطريق سلك الاعتقاد التوحيدى، القائم على جود إله مهيمن على الكون، يتمتع بشمولية القدرة الجامعة للعدالة والرحمة مع القوة والبطش فى جانب. وإنسان مستخلف على الأرض فى ضوء القوانين الأساسية التى أودعها الله فى الكون، وضمَّنها رسالات الأنبياء، فى الجانب الآخر، حيث يمكن للإنسان أن يحقق حريته ويراكم معرفته، ولكن في عناية خالقه، وتحقيقا لغاياته. وهكذا تتجلى حقيقة بسيطة هى: أن الله قد منح الدين لعباده المؤمنين كى يرسم لهم معالم أفضل طريق ممكن لممارسة خلافتهم فى الأرض، ذلك العهد الذى منح للإنسان وحده باعتباره إنسانا، وهكذا يكون الدين عطية إلهية للإنسان، فالإنسان هو المالك والدين مملوك، غير أن الإنسان مالك للدين بقدر ما هو مملوك/ مخلوق لله عز شأنه. والدين هنا مجرد خطة طريق تساعد البشر على آداء رسالتهم الأساسية، التى خلقوا لأجلها، ونزلوا على الأرض تحقيقا لها، وهى رسالة العمران، التى قصدتها المشيئة الإلهية من خلق الإنسان، ومن عصيان إبليس، ومن إغواء آدم، فالهبوط إلى الإرض هو مشيئة الله الحقيقية، وما أحاط بتلك المشيئة من ملابسات قصة الخلق فى الكتاب المقدس والقرآن الكريم معا، ليست إلا ذرائع لها، فهبوط آدم، لم يكن مجرد انعكاس لخطيئة عارضة فرضت منطقها على مسار الخلق الإلهى، فاجأت الله أو خرجت على مشيئته، فقرر الله عقابه، وبالصدفة هبط إلى الأرض، فمثل هذا الفهم الساذج لا يعنى سوى أننا نجهل حقيقة الله، وجوهر الألوهية، أى الكمال. وهكذا يصبح عهد الاستخلاف الإلهى، هو الوثيقة الكبرى والأساسية لفهم جوهر العلاقة بين الله والإنسان، وكذلك بين الإنسان والإسلام. فالإنسان فى الإسلام كائن حر مختار، مبدع لوجوده بفضل التفويض الإلهى الممنوح له. أما الإسلام نفسه فهو كل فكرة خلاقة تُمكن الإنسان من ممارسة أكثر إبداعية لهذا التفويض، فحتى يبقى دينا للإنسانية، شاملا وخالدا، لا يمكن اختزاله فى أركانه الخمسة الأساسية، ولا يجب حبسه فى نسق فكري مغلق ينتفى عنه كل ما عداه، ولا التنازل عنه لكهنة يحتكرون روحه ويتحدثون باسمه، بل يتعين اعتباره نسقا مفتوحا يستوعب كل فكرة خلاقة وفعل مبدع في التاريخ طالما ماداما قادرين على ترقية الحضور الإنسانى على الأرض، من دون نفى لمركزية الله في الوجود، فهكذا يتمحور الدين حول الإيمان، فلا يقتل إنسان على مذبح طائفة أو مذهب أو دين، بل تصير المذاهب والطوائف والأديان، ملكا للإنسان، فالإنسان يأتى بعد الله، ولكنه يسبق الأديان، بل غاية كل الأديان. لمزيد من مقالات صلاح سالم