يحكى القرآن عن خطيئة آدم وحواء بيد أنه لا يؤيد كونها خطيئة مطلقة الهبوط فى الرؤية الإسلامية هو فعل ابتلاء واختبار.. وفعل تحرر وإرادة تفتقر جل أحاديثنا عن العلاقة بين الإيمان والحرية لحقيقة مبدئية يصعب على كثيرين الإفصاح عنها، إما جهلا وإما خوفا وإما نفاقا للجماهير. هذه الحقيقة هى التى كان عيسى المسيح، عليه السلام، قد صرح بها قائلا: السبت لأجل الإنسان، وليس الإنسان لأجل السبت. والسبت هنا يعنى الدين، بحسب لغة العهد القديم من الكتاب المقدس والموروث الدينى اليهودى الذى يندرج المسيح فى سياقه. وهى نفسها التى تكشف عنها الرؤية القرآنية للعالم، وتؤكدها سنة النبى محمد عليه الصلاة والسلام. هذه الحقيقة، وفى أبسط صورها: إن الله قد أوحى بالدين لعباده المؤمنين كى يرسم لهم معالم الطريق الأفضل لممارسة عهد استخلافهم على الأرض، أى ليكون عونا لهم وسندا لجهودهم فى آداء رسالتهم الأساسية، التى خلقوا لأجلها، ونزلوا على الأرض تحقيقا لها، وهى رسالة العمران، التى قصدتها المشيئة الإلهية من خلق الإنسان، ومن عصيان إبليس، ومن إغواء آدم، فالهبوط إلى الإرض هو مشيئة الله الحقيقية، وما أحاط بتلك المشيئة من ملابسات قصة الخلق فى الكتاب المقدس والقرآن الكريم معا، ليست إلا ذرائع لها، فهبوط آدم لم يكن مجرد انعكاس لخطيئة عارضة فرضت منطقها على مسار الخلق الإلهى، فاجأت الله أو خرجت على مشيئته، فقرر الله عقابه، وبالصدفة هبط إلى الأرض، فمثل هذا الفهم الساذج لا يعنى سوى أننا نجهل حقيقة الله، الكمال. وهنا يكمن الفارق الأهم بين الرواية التوراتية ونظيرتها القرآنية لقصة الخلق، فرغم اتفاقهما على كيد إبليس لآدم، وصولا إلى غوايته وهبوطه إلى الأرض، فإن القرآن، على عكس الكتاب المقدس، لا يرى فى ذلك الهبوط خطيئة مطلقة، ولا يكرس لمبدأ السقوط بمعناه المسيحى. لقد استسلم آدم حقا لغواية الشيطان، لكن ذلك كان مرحلة ضرورية فى تطور الإنسان، فعصيان آدم وغواية إبليس مجرد حدث دشن الدراما البشرية فى الكون، فالهبوط فى الرؤية الإسلامية يحمل دلالة مزدوجة، فهو فعل ابتلاء واختبار من ناحية، وهو فعل تحرر وإرادة من ناحية أخرى، على العكس من مفهوم السقوط المسيحى، الذى يقتصر على الدلالة السلبية، ويحيل الخطأ الأول إلى خطيئة أبدية لا يمكن الخلاص منها إلا عبر تجسد وفداء المسيح، ورعاية الكنيسة الأبدية، وهو أمر أربك طويلا مسيرة الإيمان المسيحى، ووضعها فى شبه تناقض مع مسيرة الحرية الإنسانية. نعم يحكى القرآن عن خطيئة آدم وحواء، بيد أنه لا يؤيد الاعتقاد القائل بأنها خطيئة مطلقة تتابع الجنس البشرى، الذى بات من جرائها، ذا طبيعة فاسدة مدنسة محكوم عليها بالدونية، تضعه دوما خارج الملكوت الإلهى، بل إن آدم نفسه الذى ارتكب الزلة الشيطانية، قد أصبح أول الأنبياء، ومن اللحظة التى هبط فيها إلى الأرض بدأت مسيرة تحرره. لقد أدرك أنه ليس ملاكا مجبورا على الطاعة، ولا حيوانا محروما من الإرادة، بل إنسان يراوح بين هذه وتلك، إنه عبء الحرية فى مواجهة المأساة لدى كائن جديد كلية يفتقر إلى براءة الحيوان وفطرة الملاك، كائن إنسانى كان عليه أن يختار كينونته، أن يكون خيِّرا أو شريرا، وهذه القدرة على الاختيار هى أعلى أشكال الحرية.. الحرية الوجودية.