يمثل مفهوم القربان أو التضحية أحد المفاهيم المتجذرة في التفكير الديني, يقوم به المؤمنون بغرض تحقيق الخلاص من الإثم, واستحضار العناية الإلهية; فكل ما يصيب الإنسان القديم من ألم وضيق ومرض وفقر يرجع إلي غضب إلهي يتوجب علي الإنسان السعي إلي الخلاص منه بالتضرع والتضحية عبر طقوس تختلف باختلاف أنماط الاعتقاد, وإن سعت جميعها إلي هدف واحد: طمأنينة النفس وتوازن المشاعر. في الدين التوحيدي تحتل قضية التضحية أهمية ملحوظة ترافق قضية الخلاص, تلك القضية التي اكتسبت أهميتها مع بروز عقيدة البعث والخلود, ومن ثم الثواب والعقاب في عالم الغيب. وفي حين تشارك الشرائع الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلامية في المكون العقدي التوحيدي, يبقي اختلافها في درجة التنزيه صانعا لتباينها إزاء أشكال الخلاص, ومن ثم لأشكال التضحية ومغزي الأضحية. ففي اليهودية, أولي شرائع التوحيد, كان تجذر حس( الخطيئة الأصلية) التي ارتكبها آدم وبسببها, خرج من الجنة. لقد غضب الله لأن الإنسان أكل من الشجرة التي نهي عنها, وهي شجرة معرفة الخير والشر, فقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلي الأبد..( تك,3:22). ومن هنا حاقت اللعنة بالإنسان لأنه أكل من الشجرة, وبالمرأة لأنها استمعت إلي غواية الحية. ولكن كان من الممكن اتقاء الخطيئة ونتائجها بالصلاة والتضحية, عبر تقديم الذبائح وإيقاد المحرقات, التي كانت تقدم تكفيرا عن شرور الإنسان وآثامه, سواء من قبل آدم وحواء أو قايين( قابيل في القرآن الكريم) وهابيل أو إبراهيم وإسحق ويعقوب أو أيام موسي.. إلي أن نصل إلي خروف الفصح اليهودي أو أضحية العبورالي الحرية, التي قدمها شعب إسرائيل الخارج من أرض مصر, عبر سيناء, إلي أرض كنعان الميعاد, والذي كانوا يحتفلون به مرة واحدة في كل سنة عبرية. كما كانت عملية الختان نفسها من أعمال التضحية, وربما كانت فدية لتضحية أخري أشد منها قسوة يكتفي فيها الإله بأخذ جزء من كل, وكان الحيض والولادة, كالخطيئة, يدنسان المرأة ويتطلبان تطهيرا ذا مراسم وتقاليد, وتضحية وصلاة, علي يد الكهنة. وفي المسيحية: نجد ديانة يقوم كيانها كله علي مفهوم التضحية وفكرة الفداء, فهي ليست ديانة تحتوي علي فكرة للخلاص, بل هي بالأساس فكرة خلاصية ارتسم حولها معمار الديانة كله. والخلاص هنا لا يمكن فهمه إلا من إثم الخطيئة الأولي/ الأزلية. وهنا يقرر بولس في رسالته إلي أهل روما: أن الأكل من الشجرة هو أصل الشر في العالم الإنساني وكفارته الموت الذي يصيب الجسد ولا تكون كفارة الروح إلا بفداء السيد المسيح. ولأن الخطيئة أصلية; يبدو المسيحي عاجزا عن تحقيق الخلاص الذاتي, محتاجا دوما إلي وسيط خارجي, فكان المسيح هو المخلص, ثم كانت الكنيسة بالوكالة عنه, وباعتبارها امتدادا لجسده ومحلا لروحه في الأرض, راعية الإيمان والرقيب عليه, فلا إيمان من دون رعايتها ورقابتها ووساطتها!. ولقد استمر ذلك الفهم حتي هبت رياح النزعة الإنسانية الحديثة علي العقل الغربي الحديث, وصولا إلي فلسفة التنوير التي أحلت عقيدة التقدم, كمخلص جديد/ دنيوي, بديلا عن ركام معقد من الفكر المسيحي التاريخي المتمحور حول الخطيئة والخلاص. وأما في الإسلام, كشريعة خاتمة, فنجد فكرة التضحية تتنازل عن مركزيتها وتعود إلي حجمها الطبيعي, مجرد تقدمة حيوانية( خروف غالبا) تمثل استعادة رمزية لحدود الواقعة الخاصة بالفداء الإلهي لإسماعيل عليه السلام عندما قرر أبوه ونبي الله إبراهيم أن يذبحه طاعة لأمر الله, وليست لها, من ثم, دلالة الخلاص من خطيئة أصلية غير قائمة أصلا في الفهم الإسلامي.. فرغم أن القرآن الكريم يحكي عن خطيئة آدم وحواء في الأكل من الشجرة, إلا أنه لا يعتبرها خطيئة أصلية, ومن ثم أزلية تتابع النوع البشري الذي بات, من جرائمها, ذا طبيعة فاسدة مدنسة محكوم عليها بالدونية, بل إن آدم نفسه الذي ارتكب الزلة الشيطانية, يعتبره الإسلام أول الأنبياء, أما خروجه من الجنة فلم يكن سقوطا بالمعني الحقيقي للكلمة بل مجرد ذريعة لتعميق الإدراك الإنسان لمعاني الخير والشر, وتبرير قصة الخلق, التي أراد الله بها تدشين دراما الوجود الإنساني علي الأرض. وهنا لابد من التساؤل حول معني الخطية في الإسلام؟.. إنها كل فعل سييء أو شرير يقوم به الإنسان, يخالف فيه تعاليم الله وغاياته في الوجود. إنها بالقطع ليست أزلية ولا موروثة من آدم, إذ لا يتصور الإسلام أن يحاسب إنسان علي جريرة آخر, فالمسئولية فيه فردية: ولا تزر وازرة وزر أخري, لأنها قرينة حرية الإرادة, وفضيلة الاختيار. كما أنها ليست حتمية بأي معني, حيث تواجهنا المصاعب والاختبارات كل يوم وربما كل ساعة, ننتصر عليها فنستطيع تجاوزها أحيانا, ونقع في شراكها نتيجة لضعف إرادتنا في أحيان أخري, ولكن وقوعنا في الخطيئة لا يعني هلاكنا الأبدي وإنما فقط حاجتنا للتوبة, حيث الطريق إلي الله مفتوح, والعودة أمل للروح. علي هذا النحو يستطيع المسلم تحقيق خلاصه الذاتي, بإيمانه وكذلك بأعماله التي يأتي علي رأسها العبادات خصوصا الصلاة التي تمحو السيئات, بل تنهي عنها كنوع من الوقاي+ة يسبق العلاج حيث يقول القرآن الكريم: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكري للذاكرين( هود:114), ثم الصدقات أو الكفارات: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير( البقرة:271). هكذا فإن قصة الفداء التي يرويها القرآن لا تعدو أن تكون حدثا تاريخيا يود القرآن من خلالها تكريس وعي المسلم بتاريخ ومسار نبوات الدين التوحيدي وشرائعه السابقة, أما ما يقوم به الحاج من تقديم أضحية, يفترض أن يقدم مثلها كل مسلم قادر عليها, فلا يعدو أن يكون تقربا إلي الله وطاعة له, لا ينصرف قط إلي تحقيق الخلاص من خطيئة أصلية أو لعنة أبدية لا يعترف بها الإسلام. المزيد من مقالات صلاح سالم