كما كانت ليالي العشر الأواخر من رمضان هي أفضل ليالي السنة علي الإطلاق فإن أيام العشر الأوائل من شهر ذي الحجة هي أيضاً أعظم أيام السنة، ويتخلل هذه الأيام يوم هو أعظم أيام السنة وهو يوم عرفة تماما كما كانت ليلة القدر هي أفضل ليالي السنة وخير من ألف شهر. وقد جسّم الإسلام هذا المعني وجعل له رمزاً وهو الأضحية ليتجسده الناس ويتعلموا من معانيه العظيمة في حياة الأمم والشعوب والحضارات ويستشعروا في ذلك اليوم معني التضحية بالدنيا وما فيها.. أما الأضحية فهي شعيرة مفرد شعائر تؤدي في وقت معين في يوم معين هو يوم الأضحي ليتعلم المسلم أن يضحي ببعض ماله في سبيل الله، وسبيل الله بابه واسع تدخل فيه كل أنواع الخير ومجالاته، ومنه إطعام الفقراء والتصدق عليهم من هذه الأضاحي، وفيه تقوية للروابط الاجتماعية بين المسلمين بعضهم البعض من جهة لأن لحم الأضحية يأكل منه الأهل والأقارب والأصدقاء، وبين المسلمين وغيرهم من جانب آخر لجواز أن يطعم من الأضحية غير المسلمين. وفي الأضحية تعويد المسلم علي التقرب إلي الله في مناسبات بعينها ليصبح ذلك شأنهم في سائر الأوقات والمناسبات وليتعود الناس علي العطف علي الفقراء والمحتاجين {وَأطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}. ولكن قديما ربما قبل التاريخ المكتوب بزمان عرفت تضحية من نوع آخر إنها التضحية بالإنسان، وهي ثقافة قديمة أنبأت عنها دلائل وشواهد تم رصدها فيما بعد، وكان أهم ما جاء فيها الكشف عن بقايا مدينة كاملة تعود إلي مملكة (الموتشي) في بلاد المكسيك، تضم مائة ألف من السكان ويزيدون، يعيشون قرب شاطيء المحيط، قد شيدوا إلي الداخل أهرامات عملاقة أخذت اسم الشمس والقمر..كان مسرح التضحية قريبا من الأهرامات، وكان الشاب القوي يؤتي به مغلولاً إلي الأعناق، ثم يرمي به من شاهق بعد ذبحه، أو يضرب بهراوة فوق جمجمته فتتهشم ويندلق الدماغ.. وعثر أيضاً علي بقايا صور مرعبة منحوتة علي الحجر من بشر قد نحرت رقابهم بالنصول المرهفة. وقد ذكر إنه أثناء أحد هذه الطقوس الدينية ضحي بعشرين ألف شاب في وقت قصير. وكان الكهنة يقفون أمام جمع حاشد فيربطون الشاب القوي من أطرافه الأربعة ثم يشقون صدره حيا وينتزعون قلبه يخفق أمام الجمهور الذي يبدو منتشياً بمنظر الدم المراق. وهكذا نجد أن المغزي الأساسي وراء فكرة التضحية بكل صورها هو طاعة الله والتقرب إليه، والتحرر من العبودية والتكفير عن الذنوب والخطايا. فالتضحية ماهي إلا الأضحية في الأساطير الرومانية القديمة القائلة بأن كل عمل أو كل صنيع عظيم يقتضي تضحية عظيمة، وفي اليهودية كانت الذبائح التي يتقدم بها الكهنة نيابة عن الشعب رمزاً للتكفير عن الخطيئة. وحين جاءت المسيحية آمن أتباعها بالفداء والخلاص بدم السيد المسيح. أما في الإسلام فيتم ذبح الأضحية في عيد الأضحي تيمناً بالنبي إبراهيم الذي كاد أن يذبح ابنه طاعة لأمر الله قبل أن يتم افتداؤه بكبش سمين. والمجتمعات الحديثة لها أيضاً قرابينها التي تضحّي بها لطرد الشرور من جسدها مثل التضحية بالجاني لخلاص الجميع، ذلك جوهر القوانين البدائية كلها دينية أو غير دينية. وهكذا نري أن تقنين الغرائز المولّدة للخطايا يتّبع طريقتين: الأولي طقوسية والثانية قانونيّة. نجد الأولي في مختلف الشعائر الدينية كأضاحي الحجّ لدي المسلمين، أو عيد الغفران الذي يقوم فيه اليهودي بوضع دجاجة حيّة علي رأسه لتحمّل خطاياه وخطايا عائلته ثم يقوم بذبحها.. وكما تجدها في طقوس الديانات الوثنية الأفريقية كذلك. وقد بلغتْ هذه الطقوس شكلاً أكثر تعقيداً وأشدّ ترميزاً كما في تحمّل المسيح خطايا البشر واعتباره القربان الكامل لخطاياهم، أو كما في بعض التآويل الشيعية التي رأت في ذبح الحسين خلاصاً لشيعته. أما الطريقة الثانية فنراها في صنوف العقوبات الدينية التي نصّت علي قتل القاتل، كما نجدها في الأعراف القبلية كذلك (الثأر أنفي للدم)، إذ إن هذه العقوبات هي في آخر الأمر محاولات للحدّ من انفجار الغريزة التي تطلب علي الدوام موضوعاً لتحقّقها. وكانت القوانين والشرائع التي نظمتْ حياةَ البشر مبنيةً علي الحدّ من سلطان الغريزة وتأجيل انفجارها، وفي النهاية لا تبدو المدنيةُ أو التحضّر إلا نتاجَ هذا الكبحِ المستمرّ لغرائز الانتقام والقتل والرغبة في التهتّك والخروج من سلطة الأخلاق أو القانون، إذْ إن هذه الرغبةُ في الانفلات هي أساس كل غريزةٍ وإليها تنتهي كل الرغبات التي قُمعت بسلطان الحقّ والعدالة . ولكن الواقع أبلغ من أية نظرية، ويكفي أن نسترجع المجازر والإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة و بوروندي، مرورا بما يحدث في العراق ودارفور اليوم.. والبقية آتية. كل عام وأنتم طيبون وأكثر قدرة علي العطاء ورغبة في بذل التضحيات.