هى سوريا، ليست مجرد دولة من الدول، أو وطن من الأوطان، هى متحف التاريخ الحضارة، هى زنوبيا والمسيح، هى الرومان والعرب والكرد والأشوريين والكلدان، هى عاصمة هرقل وحاضرة الأمويين، هى ملتقى الأجناس والأعراق والأديان، مروا بها ولم يندثروا، بل مازالوا أحياءً، فى قراها مازالت لغة المسيح عليه السلام حيةً تنطق، وفى شعبها ملل ومذاهب وأديان ليس لها مثيل فى أى مكان فى العالم، هى السحر والجمال، وهى الفتنة الكبرى وتمزيق الإسلام، هى مفتاح العالم العربى أمام الغزاة، فعلى أرضها النصر والهزيمة، وفى شعبها البطولة والخيانة، منها دخل الصليبيون، ومن حكامها كان التسليم والخيانة، ومنها دخل العثمانيون وبعدها دائما يسقط العالم العربى تحت أقدام الغزاة، هى سوريا التى لا يعرفها الصبيان فى عواصم الفتنة والدماء، هى سوريا ليست بشار الجزار، هى العروبة والإسلام، هى نصف قلب مصر، بدونها لا تستطيع مصر البقاء، لأنه لا حياة بنصف قلب. من سوريا خرج نزار قبانى الدبلوماسى الشاعر، أو الشاعر الدبلوماسي، كتب نزار قصائد عديدة، كل منا يتذوق بعضها، ولا يتذوق البعض الآخر أمس الأول 10 سبتمبر 2016 طالعتنا الأخبار أن سيرجى لافروف وزير خارجية روسيا، وجون كيرى وزير خارجية أمريكا اتفقا على وقف إطلاق النار فى سوريا، وقبلهما صرح عادل الجبير وزير خارجية السعودية بأن أمريكاوروسيا ستتفقان على إنهاء الحرب فى سوريا خلال 24 ساعة هنا وجدتنى أغنى مع نجاة الصغيرة قصيدة نزار قبانى «متى ستعرف كم اهواك يا رجلا؟ خصوصاً ذلك المقطع الذى يقول: «انا أحبك يا سيفاً أسال دمي، يا قصةً لست أدرى ما أسميها، انا أحبك حاول أن تساعدني؛ فإن من بدأ المأساة ينهيها، وإن من فتح الأبواب يغلقها، وإن من أشعل النيران يطفيها», هنا فقط اكتشفت أن نزار قبانى كتب هذه القصيدة للرئيس الأمريكى الذى بدأ المأساة، والرئيس التركى الذى فتح الأبواب، وللرئيس الروسى الذى أشعل النيران، وحيث أن الرئيس التركى ما هو إلا بواب يفتح الأبوب ويغلقها بأمر أسياده، لذلك اجتمع من بدأ المأساة مع من أشعل النيران، واتفقا على إطفاء النيران تمهيدا لإنهاء المأساة، لأنه هكذا يقول المنطق أن من بدأ المأساة هو المسئول عن وضع نهايةٍ لها، ولا مكان للكومبارس من العربان السوريين وصبيان عاصمة الدم والنار، والمرضى النفسيين الذين مازالوا يحلمون أن فى دمشق سيثأرون من يزيد بن معاوية، وعبيدالله بن زياد، وكل من شارك فى جريمة قتل الحسين عليه السلام، وعلى أبيه وإمه وجده وأخيه وأخته، وعلى نسله إلى يوم الدين. اليوم فقط يمكن أن يعرف العرب، إذا أرادوا المعرفة، وإذا امتلكوا وسائل المعرفة وملكاتها، أن الحالة فى سوريا كانت ثورة فى أيامها الأولي، وتحولت إلى حرب أهلية بعد ذلك، ثم عندما دخل الأجانب الممولين ممن لهم ثأر عند المجرم بشار، أو أبيهة هنا انتقلت الحالة السورية من الثورة ثم الحرب الأهلية إلى الحرب بالوكالة؛ التى عمل فيها الوكلاء لمصلحة أسيادهم بعض الوقت، ولمصالحهم الشخصية كل الوقت، هنا صارت سورية، ساحة مفتوحة للمقامرين، والطامحين، والطامعين، والحالمين. فقد انضم للمعارضة كل انتهازى وطامح من أساتذة جامعات وكتاب وصحفيين وسفراء ممن وجدوها فرصة لتحقيق أحلام المراهقة، وممن لا سابق لهم فى العمل السياسى على الإطلاق، ومنهم كثير من الزملاء الذين كنا نعدهم أصدقاء عقلاء، وتحولت هذه المعارضة الانتهازية إلى ورقة فى يد اللاعبين الإقليميين والدوليين، ويكفى أن نعرف محل إقامة الواحد منهم، فى أى عاصمة، وأى فندق لنعرف من سيده، ولمصلحة من يعمل، أولئك المعارضون الانتهازيون أخرجوا أولادهم من سوريا، وتركوا الفقراء والبسطاء بين جحيم الأسد المتوحش، ومصاصى الدماء من الإيرانيين وصبيانهم فى لبنانوالعراق من جانب، وداعش والقاعدة وكل مجرمى العالم الإسلامى من المتعطشين للدماء من جانب آخر. حرك هذه المعارضة وموَّلَها دول استخدمت دماء السوريين وسيلة للانتقام من الأسد لثارات بينهما؛ لا علاقة للشعب السورى بها، ولا دور له فيها، هذه الدول كان تصب النفط على النار فتزيده اشتعالاً، ولا ضير طالما يؤذى الأسد، ولم يتحرك ضمير سياسى فى هذه العواصم أن الأسد فى عرينه لا يضيره شيء، وإنما تحرق الغزلان والطيور من أطفال سورية، لم يرتدع أولئك بطول الزمن وكثرة الضحايا، وزيادة المعاناة وخراب البيوت ودمار المدن، فهم مقامرون على حساب غيرهم، لا بأس عندهم من إنهاء كل الشعب السوري، وخراب كل سوريا، وإعادتها الف عام إلى الوراء فى سبيل رحيل الأسد، ولذلك لا عبارة تتردد على ألسنة دبلوماسى هذه الدول أكثر من «لا مستقبل للأسد فى سوريا» «الأسد لابد أن يرحل بالحرب أو بالمفاوضات', لم يدرك هؤلاء جميعاً أنهم أدوات وعرائس فى يد «ماريونت» يحركها من وراء ستار، أومن أعلى المسرح، وأن كل ما يحدث فى سوريا لتحقيق أجندات دولية وإقليمية أكبر من فهم هؤلاء جميعا، أو قد يكونون فهموها ولكن الثمن كان أكبر، الحرب فى سوريا ليست من أجل الديمقراطية، وخلع بشار الديكتاتور إبن الديكتاتور الخائن الذى باع الجولان، بل هى من أجل إعادة ترتيب المنطقة، وتأمين إسرائيل إلى قرن قادم بعد خروج سورياوالعراق من معادلة الصراع العربى الإسرائيلي، وتمكين تركيا وإيران من رقبة العرب، والعودة بالتاريخ إلى القوتين الإقليميتين: الفرس والروم، والعرب بينهما مناذرة عملاء للفرس فى العراق، وغساسنة عملاء للروم فى الشام (والروم هو الاسم التاريخى للأتراك)، وتفكيك العالم العربى من خلال إيجاد مشتل أو حاضنة لتربية وتجريب تنظيمات إجرامية مثل داعش والقاعدة؛ يمكن أن يتم إعادة زراعتها فى الحقول العربية من المحيط إلى الخليج، وأخيرا توزيع مناطق نفوذ بين أمريكاوروسيا, ولم يبق إلا أن نقول للسيد الروسى والسيد الأمريكى والصبى التركى ما قاله نزار قبانى فى ختام قصيدته: كفاك تلعب دور العاشقين معية وتنتقى كلمات لست تعنيها. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف