«شمسة» هى المبدأ والميعاد فى رواية ميسون صقر القاسمى «فى فمى لؤلؤة»، ف «شمسة» هى التى تخلق متاهاتها وتدخلنا إليها، كما تدخلنا شطحات الصوفى إلى عالمه الخاص على أجنحة الخيال والنشوة على السواء. ولذلك تنتسب رواية ميسون إلى الروايات القمرية التى يمرح فيها «ديونيسيوس» إله النشوة وعدو المنطق، على النقيض من «أبوللو» الإله الشمسى الملازم للمنطق والعقل. وتمضى بنا «شمسة» فى عوالمها القمرية مبحرة ما بين متاهة ومتاهة، خالقة شخصيات هى مرايا لها، تجتلى فيها أحوالها وتحدس بكل ما ينيره لها عقلها الباطن الذى يبدو- بدوره- موازيا رمزيا لأعماق البحر، حيث يوجد اللؤلؤ فى محاراته الخبيئة فى الأعماق، حيث تتراوح الرؤية ما بين الظلمة والضوء الخافت الذى لا يختلف عن الظلمة كثيرا، وهكذا نمضى فى رحلتنا مع «شمسة» التى هى أقرب إلى دلالات الحضور القمرى الغامض من الحضور الساطع لكلمة «شمسة»، ف «شمسة حضور قمرى تتحدث مع الريح والضوء، وتخبر عن شخصيات خيالية، هى أبطال وبطلات الرواية التى تتحول إلى أقنعة ترى فيها «شمسة» مجال وجودها القمري، رافضة أن تكون نموذجا نمطيا، مكررا، فالنموذج النمطى قناع خارجى إذا قبلت به انتهت، وإذا ما مارست من تحته اللحظة الحدسية تنازلت عن سر حضورها فتضيع الحقيقة متعددة الأوجه لحضورها، ولذلك فهى تكتب عن الزمن لكنها لا تلتزم بتتابعه الكرونولچي. تبحر فى اللا وعى كما لو كانت تغوص فى أعماق الخليج، وتترك الأعماق، صاعدة إلى السطح، باحثة عن شاطئ يبين ولا يبين، فى لحظة الموت التى هى لحظة الحياة. وما أكثر توهمات «شمسة» التى لا تفارق متاهاتها، ومن ثم تحولاتها الخيالية التى هى فى الوقت نفسه تحولات رمزية، تلتقط من أعماق البحر والخيال دوالها، باحثة عن مدلولات, كى تصعد حتى ولو تجرحت يداها وقلبها. ولهذا يمكن أن نراها أسيرة جدار فى القاع فى غرفة كالقبر، تشير إلى صورة معلقة على هذا الجدار، وبعض ضوء ينفذ من السطح إلى الأعماق، باحثة عن جزيرة صغيرة، أو مدينة بلا مسمى أو شكل بلا شكل، كأنها موجودة من الأزل، باحثة عن حب مستحيل وعن حضور فى الوجود لا يتحقق، معاندة حركة الزمان التى تريد أن تعيد الماضى فى الحاضر، وتصف نفسها بأنها تسير عمياء القلب والعين وتستفيق من ألم لتقع فى آخر أشد، وترتد من وجع لتسقط فى وجع آخر، ولا حدود ليأس أو سراب حين لا تعلم ماذا دهاها, وما الذى يحدث معها بالذات؟ ودائما فى فمها ماء، كناية عن الكلام المحجوز فى فمها التى لا تستطيع أن تنطقه أو تصرح به، فالواقع الشمسى أقسى من أن يسمح بوجود تكشف حدسى أو حتى تجسيد خيالي. وهكذا تنتقل «شمسة» كشخصياتها فى رحلة ما بين الوعى واللا وعى فى حزن عميق، تنهشها تساؤلات عديدة لا حل لها، متسائلة عما تكون عليه الحال لو أنطقت المسكوت عنه من الكلام المحتجز، وسكبت الماء الذى ينغلق عليه فى فمها، كما تنغلق صدفة اللؤلؤ عليها، محتجزة ضوء اللؤلؤ وحضوره الحر. وتعيش «شمسة» فى هذا العالم، مرتحلة فيه ما بين الوعى واللا وعي، مبحرة فى الما بين، تميل أحيانا إلى شطآن الوعي، فتتحدث حديثا معلوماتيا أو تغوص إلى القاع فتتحدث لغة سرية. وما بين هذين النقيضين لا تكف عن خلق شخصيات تنتسب إلى البحر وتحب الأعماق وتحادث الموج, مثل شخصية «مرهون» فى الرواية التى هى من خلقها تماما, ومثل شخصية «آمنة»، وكلتا الشخصيتين تؤدى وظيفة الموازى الرمزى والمرآة التى تتكشف على صفحتها الحقائق المخبوءة والأسرار التى تنغلق عليها محارات الأعماق، أعماق «شمسة». أما «مرهون» فهو مرآة يصل بها الحال إلى الاتحاد مع «شمسة» التى صنعته، فهو إياها على مستوى الكشف عن ما وراء الأنفس والحكايات، وعلى مستوى الداخل لا الخارج، هى تقول له فى أحد حواراتهما الخيالية: «أنت أنت كما قال ابن عربي؟». فيجيب عليها قائلا: «أنا أنت»، والدلالة لافتة فى الحضور المرآوى ل«مرهون»، خصوصا فى علاقته ب«شمسة» التى هى شبيه ونقيض فى الوقت نفسه، تماما كعلاقة «شمسة» ب»آمنة» التى هى تجسيد للحضور الأنثوى المتمرد على السطوة الذكورية القمعية فى الرواية وخارجها فى آن، ف«آمنة» هى مجلى نصى من مجالى الأميرة العُمانية التى هربت إلى ألمانيا واستقرت هناك، وكتبت مذكرات نجد أصداء غير مباشرة لها فى السرد، على مستوى التناص، حيث تتجاوب علاقات الحضور والغياب. و«آمنة» تعيش فى متاهتها الخاصة التى لم ولن توصلها إلا إلى التراب فيما تقول، متوقعة لقاء الموت نظير تمردها واندفاعاتها وراء متاهاتها أو إيثارها العالم الذى تتحرر فيه من كل القيود التى تحجز فى فمها الكلام، ولذلك تتنقل وتغير الأمكنة والحياة، غير ثابتة فى مكان، نافرة من البيت القديم أو الخيمة، فهى تريد أن ترى ما خلف العالم، وما بين البحر واليابسة, كأنها لؤلؤة أخرى تريد أن تدفع بصدفتيها اللتين تحبسانها عن الضوء. وعندما تجتلى «شمسة» حضورها فى حضور «آمنة»، فإنها تتعلم منها أن الحضور الكامل يعنى الموت فى مجتمعها وفى عالمها، مدركة أنه لا سبيل أمامها إلا المراوحة بين النقيضين: الصمت والنطق، المباح واللا مباح، مائلة دائما إلى ما لا يضعها– مثل مرهون- فى صدام مع الحضور الشمسى للمجتمع الذى لا يزال يعامل المرأة كأنها سلعة، أو الحضور الأبوللونى للعقل الذى كان على «مرهون» أن يتركه وراءه، وهو يحمل على كاهله هموم البحث عن لآلئ البحر الفريدة. ولكن حركة «مرهون» ما بين السطح والأعماق تتكشف لنا فى غير حالة عن صراع المقموعين مع القامعين واستغلال القامعين للمقموعين ومعاملتهم وكأنهم عبيد يفعلون بهم ما يشاءون، ابتداء من الاستغلال وليس انتهاء بالموت. هكذا نرى بعينى «مرهون» كيف يقتل النوخذة «أبو أحمد» شاعر السفينة «خلفان» الذى تصادف أنه سمعه ينشد عن فضائل نوخذة آخر، فيأمر بتقييده وربط قدميه بحجر كبير وإلقائه فى البحر كى تأكله الأسماك والحيوانات البحرية. ونسمع عن نوخذة ثان أحرق «سالمين»، وهو غواص آخر فى سفينة مغايرة لأنه اشتبه فى سرقته للؤلؤة، ونعود إلى «أبى أحمد» ونجده فى مشهد مأساوى يبقر بطن «غانم» لأنه حاول مداعبته بادعاء ابتلاعه للؤلوة التى عثر عليها «مرهون». وما أقسى حياة الغواصين الذين تصفهم رواية ميسون! وكذلك ما أقسى النظام الذى يسمح باسترقاق الغواصين ووضعهم فى سلاسل دائمة لا تنفك من الديون التى يغرق فيها الغواصون، فلا نجاة لهم من استغلال أصحاب المراكب أو من يتولون أمرها. والقامعون على السفن التى تشتغل بصيد اللؤلؤ يعملون فى رعاية حكام لا يقلون ظلما عن شخصية «أبى أحمد» الذى نراه فى الرواية قاسيا إلى درجة الوحشية. والغريب أن الذين يسومون الغواصين العذاب، هم بدورهم واقعون تحت سطوة قامع آخر كان قد بدأ استغلاله لأوطانهم. هذا القامع الأكبر هو الحضور الاستعمارى فى المنطقة الذى لا يخلو ممثلوه من احتقار شديد لأبناء المنطقة. فنرى القبطان الإنجليزى المتغطرس الذى يرى أن المجتمعات التى يذهب إليها فى المستعمرات الخاضعة لهم، هى مجتمعات متخلفة، البشر الذين يعيشون فيها من طينة أدني، لا يرتقون إلى مستوى الإنسان الأوربى قط. وحتى عندما تنتقل أحداث الرواية إلى قلب إفريقيا تظل القسوة الشديدة والتفرقة العنصرية قائمة ممثلة بقسوة السير «ماينر» الذى لم يكن يحتقر السود فحسب، بل يمارس تفرقة عنصرية موازية للأيرلنديين الذين يعيشون تحت مظلة التاج البريطاني. ولذلك تشتكى «فيكتوريا» ل «هنري» قائلة إن هذه تفرقة شديدة القسوة والتحيز. ولكن السيدة التى كانت تحتج على التمييز الذى يمارسه السير «ماينر» ضد الأيرلنديين ظلت مشاركة للظلم الوحشى الذى كان يقع على السود المقموعين الذين هم أصحاب البلاد والملاك الحقيقيون للثروة فى عالم النهب الاستعمارى الكبير. والغريب أن صيد اللؤلؤ ينتهى تدريجيا مع تغير الأوضاع التاريخية فى الخليج مع ظهور النفط. وفى الوقت نفسه يؤدى ظهور النفط إلى تقلص عالم الغواصين. ولذلك يبدو شخص «مرهون», الذى يظهر من جديد كالشبح الذى يظهر لهاملت بعد وفاة والده, كأنه يؤسس يوتوبيا جديدة لعالم الغوص وصيد اللؤلؤ، حالما بأن يصنع تعاملا إنسانيا بين النواخذة والغواصين. ويمضى فى توهماته فيحلم بأنه يؤسس تجارة ضخمة للؤلؤ، تعمل على أن يصبح الغواصون مشاركين للنواخذة فى الرزق وحبات اللؤلؤ. وشيئا فشيئا يختفى شبح «مرهون» من المشهد بعد أن تداخلت الحكايات، وبعد أن تتعلم «شمسة» أن دوام الحال من المحال. وبعد أن ماتت «آمنة» مخلفة حكايات, لا تخلو الحكايات من القتل والدم لأنها حكايات الظلم وتراجيديا المقتولين القتلة. هكذا يتولد نص من نص، ورواية من رواية، فتظل النهاية مفتوحة رغم الختام الخادع. وتنتهى الرواية بهامش يقول: «رغم انهيار اللؤلؤ إلا أن الغوص والاتجار به قد استمر لفترة، سرعان ما بدأت تتناقص تدريجيا مع الوقت، ومع اكتشاف البترول وبدء تصديره. وينتهى زمن الغوص، ويتجه آلاف البحارة والغواصين للعمل بمهن مختلفة فى حقول النفط». (وللتحليل بقية) لمزيد من مقالات جابر عصفور