جاء إعلان السلطات التركية عن نيتها إنشاء مناطق آمنة خاصة بإيواء النازحين فى محيط مدينة جرابلس السورية الواقعة شمال شرق مدينة حلب فى أقصى الشمال السورى على نهر الفرات، والتى سيطرت عليها أخيرا قوات «الجيش السورى الحر» بدعم عسكرى من أنقرة، لتعيد إلى الأذهان من جديد الحديث حول المناطق الآمنة وجدوى إقامتها، كما أعادت إلى صدارة المشهد تجربة المناطق الآمنة التى أنشأتها الولاياتالمتحدةالأمريكية شمال وجنوبالعراق إبان عملية تحرير الكويت منص الغزو العراقى عام 1991. ويُعرّف القانون الدولى وظيفة المناطق الآمنة بأنها تتطلب صدور قرار من مجلس الأمن، وفرض حظر جوى للطيران فوقها، والذى يعد أحد أشكال العقوبات التى يوقعها مجلس الأمن على الدول بتصويت أغلبية الأعضاء ووجود قوات على الأرض، والمناطق الآمنة تُفرض لحماية مجموعة لا تستطيع حماية نفسها، ويتم فرضها بمقتضى قرار من مجلس الأمن، كما يتم تكليف دولة أو اثنتين بتنفيذ هذا القرار بالقوة، ويمنع تحليق أى طائرات عسكرية حول هذا المكان، لعدم تعرض السكان فى هذا المكان للخطر. وتهدف عملية إنشاء مناطق آمنة إلى توفير التدخل الإنسانى من خلال ممرات آمنة لحماية مدنيين حقوقهم مهدرة ويتعرضون للتعذيب، من خلال قرار يصدر عن مجلس الأمن بناء على توصيات لجنة حقوق الإنسان التابعة لمجلس حقوق الإنسان.وتبدأ التجربة العراقية بعد انتهاء الحرب عانى العراق من تدمير آلته العسكرية وبنيته التحية، وأمست الحكومة العراقية فى أضعف حالاتها، وكان كل المراقبين يتصورون أنه سوف يتم الإطاحة بالرئيس صدام حسين، إلا أن الرئيس الأمريكى جورج بوش أعلن أن المهمة الرئيسية لقوات الائتلاف كانت «تحرير الكويت»، وأن تغيير النظام السياسى هو «شأن داخلى»، وكانت تلك العبارة بمثابة التحريض للعراقيين على الثورة ضد نظام صدام، حيث رأت الولاياتالمتحدة أن ثورة شيعية فى الجنوب وكردية فى الشمال سوف تتكفل بالإجهاز على النظام فى بغداد، وبالفعل بدأ تذمر واسع النطاق بين صفوف الجيش العراقى المنسحب وبدأت شرارة ما سمى بالانتفاضة العراقية عام 1991 عندما صوب جندى مجهول فوهة دبابته إلى أحد صور صدام حسين فى أحد الساحات الرئيسية فى مدينة البصرة، ثم ما لبث أن عمت الانتفاضة جنوبالعراق ذا الغالبية الشيعية، وتبعته المناطق الشمالية حيث يشكل الأكراد الغالبية ضد سلطة بغداد، وهو ما تزامن مع ارتخاء قبضة بغداد على أنحاء البلاد، وفى محاولة الأخيرة إعادة الهيمنة والسيطرة على الأوضاع شهدت تلك المدن لاسيما الشمالية منها عمليات نزوح كبيرة للأكراد بمئات الآلاف نحو الحدود العراقية مع إيرانوتركيا نتيجة للأعمال العسكرية التى رافقت تلك الأوضاع. لذا كان اتجاه القوى الدولية يسير نحو عزل بغداد عن الهيمنة الكاملة سواء فى الشمال أو فى الجنوب وإيجاد ما يسمى بالمناطق الآمنة ومنع الطيران العراقى من التحليق فوق خط 32 شمالا، وخط 36جنوبا بموجب تفسيرات القوى الدولية لقرار مجلس الأمن الدولى رقم (688 لسنة 1991)، ونتيجة للضغط الدولى على بغداد ونتيجة لتصلب مواقفها من الأكراد تم سحب كل مؤسسات الدولة الإدارية والعسكرية من شمال العراق، الأمر الذى أوجد فراغا سياسيا، ومن ثم مهد للقيادات الكردية عام 1992 لإيجاد صيغة قانونية ودستورية لإعلان إقامة إقليم كردستان فى شمال العراق. ولم يكن قرار مجلس الأمن ينص على إنشاء مناطق الحظر أو إنشاء ما يسمى بالمناطق الآمنة، وإنما فسرت القوى الدولية (الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا) الإشارة الواردة التى تنص على ضرورة أن يعمل العراق على إنهاء معاناة وقمع سكانه المدنيين، وأن يسمح للمنظمات الإنسانية الدولية بالوصول إلى كل أولئك الذين هم بحاجة إلى مساعدات فى العراق، بأنها تعنى إقامة مناطق آمنة وإنشاء مناطق حظر للطيران العراقى، لذا فإن منطقتى الحظر الجوى فى شمال العراق خط 32 وجنوبالعراق خط 36 لم تكونا مناطق حظر قانونية إذ لم تستندا إلى أى قرار صادر عن مجلس الأمن الدولى، وإنما نتيجة لاتفاقات الدول المتحالفة، ومن ثم تم تقييد العراق بالتزامات خارج إطار قرارات مجلس الأمن. ومن التداعيات السلبية التى رافقت إقامة تلك المناطق الآمنة هى تلك النظرة لتحركات هذا العدد الهائل من اللاجئين بأنهم يشكلون تهديدا للسلم والأمن الدوليين وفق توصيف مجلس الأمن لهم بدلا من كونهم ضحايا انعدام الأمن، كما حرمت المنطقة الآمنة شمال العراق اللاجئين الأكراد من حقهم فى طلب اللجوء داخل تركيا. كما كان للطريقة غير التوافقية التى تأسست من خلالها المناطق الآمنة، وغياب أى سلطة معترف بها فى تلك المناطق، عدة عواقب وخيمة، حيث اضطر السكان للتعامل مع الحصار الاقتصادى الصارم المفروض من قبل حكومة بغداد، التى تعرضت هى نفسها لعقوبات من قبل مجلس الأمن والعيش فى ظل ظروف معيشية صعبة جداً. بالإضافة إلى الدمار الذى لحق بالعراق وجيشه الذى كان يعد من أقوى جيوش المنطقة، وفرض عزلة شديدة عليه إثر قرار الأممالمتحدة فرض عقوبات اقتصادية خانقة استمرت ثلاثة عشر عاماً عانى منها البلد بشدة وما زال، أثرت فى جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية.