فرنسا .. الأرض التي شهدت مولد أشهر الكتاب والفلاسفة، من أمثال: فولتير وديكارت وجان جاك روسو وجان بول سارتر وسيمون دي بفوار، الذين قضوا حياتهم دفاعا عن الحقوق والحريات من خلال كتبهم ونظرياتهم، التي ساعدت في نشر نور الحرية، هي ذاتها الأرض التي تشهد اليوم ضياع أبسط الحريات والحقوق، تحت مسمي حجة واهية هي «الإسلاموفوبيا»، لتبرر لهم الضرب بكل القيم الديمقراطية والحرية الفردية عرض الحائط، وتجاهل سيادة القانون وتفاقم التمييز ضد من يقيمون بها بسبب انتمائهم الديني وأصولهم، متناسين أن العلمانية التي يدافعون عنها بإستماتة تقضي بحرية الاعتناق الديني والتوجه الفكرى. ففي الوقت الذي تطالب فيه الحكومات الغربية المسلمين بالاندماج مع مجتمعاتهم، في شتي مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمهنية، تمارس الحكومات ذاتها العنصرية والتمييز في أسوأ صورهما، لتبدو حكومات «الكيل بمكيالين».. فتلك السيدة المسلمة التي كانت تجلس علي أحد شواطيء مدينة نيس، مرتدية لباس البحر «البوركيني»، تمارس الدمج بالتعايش كغيرها من المواطنين الفرنسيين، وبدلا من مساعدتها فقد تم إهانتها ومعاملتها كمجرمة تستحق العقاب، وذلك من قبل عناصر من الشرطة الفرنسية، التي أجبرتها علي خلع ملابسها، طبقا للمرسوم الذي أصدرته عدة مدن فرنسية، والذي يحظر ارتداء البوركيني، ومعاقبة من يخالف ذلك بدفع غرامة تقدر ب 42 دولارا. وقد أثار ما حدث مع تلك السيدة غضبا عارما حيث اعتبره الكثيرون انتهاكا للحريات الشخصية، وبعدما أخذت القضية مسارا عاطفيا وليس عقلانيا، فتحول «البوركيني» من مجرد لباس لقضية رأي عام تشغل المجتمع الدولي، وتسيء لسمعة فرنسا، كبلد للحريات والقانون، بل وأعادت إلي الأذهان العنصرية التي تتعامل بها فرنسا مع مسلميها، الذين يتجاوز عددهم حاليا ال 6 ملايين. ففي عام 2004 منعت الحكومة ارتداء الحجاب بالمدارس، وفي 2011 منعت النقاب في الأماكن العامة، لتصبح بذلك أول بلد أوروبي يسن هذا القانون، وأرجعت ذلك لأسباب أمنية. انشقاق إشتراكي واستغلال يميني وعلي الصعيد السياسي, انتهزت التيارات السياسية المتنافسة قضية البوركيني بمثابة فرصة، ينتهزها الساسة من جميع التيارات السياسية لكسب نقاط لدي الشعب وزيادة شعبياتهم، إلا أن ذلك تسبب في حدوث انشقاق في صفوف الحكومة الاشتراكية الحاكمة. فقد تعرض رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، الذي أصدر قرار الشهر الماضي بإنشاء مؤسسة تختص بالشئون الإسلامية هدفها دمج المهاجرين في المجتمع، لحمايتهم من الفكر المتطرف والدعاية التكفيرية، للانتقاد من وزراء حكومته بسبب موقفه من الأزمة فقد أدلى فالس بتصريح صحفى يتناف مع كل يدعو له، حيث أعلن دعمه لقرار رؤساء المدن في حظر البوركيني مؤكدا «أنه مشروع سياسي هدفه إستعباد المرأة وأن حظره ضرورة لمواجهة الاستفزازات التي تضر بالجمهورية الفرنسية»!. وفي المقابل أعلنت كل من وزيرة التعليم الفرنسية نجاة بلقاسم، ووزيرة الصحة ماريسون تورين، موقفهما المناهض لحظر البوركيني، وأدانتا كل الممارسات التي تنتهك الإسلام والمسلمين، مؤكدتين أن تشجيع مثل تلك الممارسات سيزيد من الاحتقان والغضب، وأضافت تورين أن ارتداءه لا يمثل تهديدا للنظام وللهوية الفرنسية كما يتحجج البعض، كما قالت بلقاسم إن حجة فالس دعم الحظر لن تفيد في صراع فرنسا مع المنظمات الإرهابية. أما القوي اليمينية المتطرفة، التي طالما طالبت ومازالت تطالب بحظر الحجاب والمآذن ومحال اللحم الحلال ومهاجمة كل ما هو إسلامي، فهي من دعت في الأساس لحظر البوركيني من خلال حملة تزعمها ديفيد ليسنار، عمدة مدينة «كان» الفرنسية، الذي كتب عريضة، ووقعها عدد من العمد أغلبهم من حزب الجمهوريين اليميني المعارض، متخذا من هدف الحفاظ علي الأمن العام والتصدي للهجمات الإرهابية، التي ضربت البلاد أخيرا، حجة للمطالبه بحظره، حتي نجح في تطبيق الحظر في 30 مدينة. ومن ناحية أخري، فأنه مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، استغل عدد من المرشحين القضية كسلاح لحصد الأصوات وإكتساب شعبية أكبر، وعلي رأسهم كل من مارين لوبان، زعيمة حزب اليمين المتطرف، والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، اللذين أعلنا ترشحهما للانتخابات الرئاسية، واستغلا البوركيني بتعهدهما بحظره علي كافة أراضي الدولة في حال فوزهما، بحجة الحفاظ علي أمن الدولة وهويتها العلمانية. القضاء يرفض الحظر وفي الوقت الذي أظهرت فيه الأزمة الوجه الأسوأ في فرنسا، وسلطت الضوء علي ازدواج المعايير بها والعلمانية الهشة، فقد أظهرت أيضا جانبا إيجابيا. حيث سعت مؤسستان فرنسيتان مدنيتان، أحدهما رابطة حقوق الإنسان، والأخري اتحاد مناهضة الخوف من الإسلام «الاسلاموفوبيا»، لحماية الحقوق المدنية للمسلمين بالبلاد، بلجوئهما للدستور والقانون الفرنسي، حيث قامتا برفع أمر الحظر للقضاء للبت فيه، ليأتي القضاء منصفا لهما بحسم مجلس الدولة الفرنسي، اعلي هيئة قضائية في البلاد، الجدل برفضه قرار حظر البوركيني لعدم وجود دليل ملموس علي وجود خطر منه علي النظام العام، مؤكدا في قراره أن القلق الناجم عن الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت المناطق الفرنسية لا تبرر حظر البوركيني، وأن السلطات المحلية ليس لها الحق في الحد من الحريات الشخصية. وقد جاء قرار مجلس الدولة ليسدد لكمة قوية لليمين المتطرف المتصاعد. ومن المفترض أن يتم تطبيق القرار القضائي علي جميع أنحاء البلاد، إلا أن عددا من رؤساء المدن، علي رأسهم نيس وفريجوس وسيسكو، أعلنوا رفضهم تطبيق القرار وتمسكهم بحظر البوركيني، واستمرارهم في معركتهم ضده!. وعلي الصعيد الدولي، فقد أثار قرار الحظر موجه إستياء وغضب من قبل المنظمات والحركات الحقوقية في العديد من الدول الأوروبية، كما خرج عدد من المسئولين، علي رأسهم رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، وعمدة لندن، صادق خان، لإنتقاد القرار لكونه مهينا للحرية الشخصية. وقامت نحو 35 امرأة مسلمة وغير مسلمة بتنظيم مسيرة احتجاجية علي شكل حفل شاطئي خارج مقر السفارة الفرنسية في لندن، وذلك بجلوس النساء مرتديات البكيني والبوركيني علي كومة رمال ولعبن بكرات البحر أمام السفارة وحملت بعضهن لافتات كتب عليها «دعوهن يرتدين ما يردن» وغيرها من العبارات المناهضة للقرار، كما قام شابان بالاحتجاج ب «الموتوكيني» حيث أرتديا الملابس الكاملة لراكبي الدراجات النارية وأستلقيا علي أحد الشواطئ الفرنسية، ونجحا في لفت الإنتباه لهما. بينما نشر إمام مدينة فلورنسا الإيطالية عزالدين الزير عبر حسابه الخاص علي ال«فيسبوك» صورا لمجموعة من الراهبات وهن يلهون علي شواطئ البحر بلباسهن الديني وهن مغطيات الرأس، وقد أثارت الصور جدلا واسعا خاصة أن إمام فلورنسا لم يكتب أي تعليق علي الصور، وحينما سئل عن سبب عدم وضع تعليق قال «أردت فقط أن أوضح أن هناك بعض القيم الغربية تعود جذورها للمسيحية». البوركينى .. اصله أسترالى ويظن الكثيرون أن زي البوركيني أصله عربي أو شرق أوسطي .. إلا أن أصله الحقيقي يعود لأستراليا، حيث قالت مصممته الأسترالية ذات الأصول اللبنانية «أهيدا زانيتي»، خلال حوارها مع صحيفة «الجارديان» البريطانية، «إن البوركيني ليس مقصورا على المسلمات فقط فلدينا زبائن من اليهود والهندوس والمسيحيين بنسبة تصل إلى 40 % من إجمالي المبيعات». وأشارت زانيتي إلي ضرورة إدراك الحكومة الفرنسية أن الزي ليس اسلاميا فقط بل هناك من تلجأن له لأسباب عدة، فبنسبة تتراوح ما بين ال 15 و 20 % من غير المسلمات يستخدمنه للحفاظ على أجسادهن من أشعة الشمس الضارة أو إخفاء عيوب فيها. وكان البوركيني قد اكتسب شهرة واسعة في عام 2011 عندما أرتدته خبيرة الطهي البريطانية الأشهر هيجيلا لاوش أثناء اجازتها في استراليا لحماية بشرتها من اشعة الشمس مما أثار جدلا كبيرا. والطريف أنه كان من المفترض أن تقل مبيعات البوركيني بعد حظره، إلا أن النتيجة جاءت عكسية حيث أن تلك الأزمة زادت من شهرته، فقد أدي قرار المنع إلى تضاعف مبيعات البوركيني حسبما أعلنت الشركة الموزعة فى فرنسا.