كلام فارغ... عبارة بسيطة اصبحت علي لسان الكثير منا هذه الأيام للتعبير عن رأي أو أي أسلوب حياة مختلف لا يستطيع الأخر تحمله و التناغم معه؛ أحياناً لرفض فكرة الاختلاف أو لعدم الفهم وأحياناً أخري لأنه يتمني أن يكون هو صاحب الكلام الفارغ ولا يستطيع لأنه لم يدرك بعد أن الحياة تحتاج كلام فارغ... ما أسهل أن نحكُم علي بعضنا البعض بالتفاهة وعدم الفهم والفراغ لكن الأصعب أن نتغلغل داخل هذا الفراغ لنتعلم اسلوب جديد للحياة. قابلت الاسبوع الماضي أحد أصدقائي الذي لم اره منذ زمن بعيد لانشغاله الدائم بعمله؛ فهو لا يعترف بوقت الفراغ والراحة والحب والخروج عن الروتين بشكل عام بالنسبة له كلام فارغ لتضيع الوقت، لهذا دائماً أطلق عليه " عبده المهم أو الانسان الالي"، كان يضحك كثيراً عندما يسمعني وهو يقول " أشكرك يا آنسة فراغ" فأنا أعترف بكل ما لا يعترف به هو، أسلوب حياتي مختلف تماماً عنه فكم أعشق الخروج عن الروتين والاستمتاع بكل شيء حتي وأن كان صغيراً لأنه بالنسبة لي طاقة متجددة لشحن حياتي من جديد. وبينما كنا نسير معاً وهو يتحدث معي عن إنجازاته الجديدة في العمل وأنا أسأله عن حياته التي لا أجد فيها أي حياة وعن أسرته التي لا يعرف عنها الكثير، في هذه الأثناء وقعت عيني علي رجل عجوز تحيط به الكثير من الرسومات الرائعة الجمال جالس علي ضفاف النيل يرسم وهو يدندن في سعادة. سرحت مع ابداع العجوز لوهله حتي جاءت كلمات الانسان الالي لتأخذني من الجمال وهو يقول بأعلى صوت "كلام فارغ وتضيع وقت.. الراجل دا مش يشوف شغل بدل الهبل دا" هنا تذكرت كم كان صديقي موهوب في الرسم ويعشق تناغم الألوان والخطوط قبل أن تصبح حياته خطا واحدا فقط لا يميل للفراغ؛ عندما سألت صديقي عن موهبته أين هي الآن أجاب بشكل سريع وعينية تختلس النظر لكل لوحة " دا كان لعب عيال وأحنا صغيرين ... دلوقتي مفيش وقت.. أكبري بقي وأعرفي قيمة الوقت"، هنا سمعت العجوز يضحك ويقول لي " أنصحك خليكِ كدا اوعي تكبري .. الحياة كلام فارغ.. الفراغ أهم مما يبدو.. هل هناك نظام شمسي ونجوم وكواكب وحركات ومسارات، لولا وجود فراغ تتحرّك فيه؟ أرهنك هذا الرجل يحسدك علي فراغك وفرغاي ويتمناه لكنه لا يستطيع الرجوع " هنا غضب صديقي كثيرا وتحجج ان عنده موعد مهم وانصرف مسرعاً، بينما جلست أنا بجانب العجوز لأسئلة "من أنت؟" أجاب وهو يمسك بورقة بيضاء ليرسم من جديد " كنت انسان الي والآن إنسان عاشق للحياة بكل تفاصيلها البسيطة فعشقته.. باختصار أنا مهندس كبير حياتي قبل كدا كانت كلها شغل لا أعرف الفراغ ولا أعترف بحق من حولي في مشاركتهم فراغي حتي جاء اليوم الذي فقدت فيه زوجتي.. وجدت بين ملابسها ورقة بها جملة " كم كنت أشتهي وجودك معي وانت ترسمني .. والان أنت معي ولست معي.. افتقدك كثيراً يا شريك حياتي الغائب" ندمت لأني فقدت كل لحظه حلوة مع شريكة قلبي وأولادي في سبيل أن أصبح موظف كفء.. لم أدرك أن وقت الفراغ ومداعبة أولادي ومشاركة زوجتي ومن حولي اللحظات الجميلة هو أهم شحن للطاقة التي تمنحني الصمود والتقدم في كل شيء.. كثيراً منا تتيح لهم الحياة الفرص لكن منا من يفهم ويقتنص اللحظة والأخر لا يري سوي الفراغ.." هنا سكت العجوز عن الكلام وهو يعطيني اللوحة التي كان يرسمها وهو يتحدث معي... أنها أنا التي في اللوحة ولكني طفلة علي رائسها تاج كُتب عليه باللون الوردي "الفراغ أهم مما يبدو". [email protected] لمزيد من مقالات مى إسماعيل