العالم كله يتحدث عن التقرير الذى أصدره أحد أجهزة صندوق النقد الدولى منذ بضعة أسابيع، والذى يدين فيه سياسات الصندوق فى اليونان. التقرير الذى تم رفعه لمجلس إدارة الصندوق يقول إن شروط القرض الممنوح لليونان خلال الفترة 2011-2014 كانت تعكس أهدافا سياسية، وتمثل استجابة لضغوط الاتحاد الأوروبي، وأنها أدت فى النهاية لتعميق أزمة اليونان الاقتصادية. كريستين لاجارد العضو المنتدب للصندوق اعترفت بأن برنامج القرض قد أدى بالفعل إلى انكماش اقتصادى فى اليونان أعمق مما كان متوقعا، وأن الافتراضات الأساسية لبرنامج القرض ولمعدلات النمو كانت متفائلة كثيرا. ولكنها ذكرت الجميع بأن البرنامج قد أدى إلى بقاء اليونان عضوا فى منطقة اليورو! اعتراف صريح بأن برنامج القرض لم يكن اقتصاديا خالصا وبأن الهدف منه كان سياسيا بالدرجة الأولي. فما هو الثمن الذى دفعه الشعب اليونانى لتحقيق هذا الهدف؟ الأرقام تقول إن برنامج «الإصلاح الاقتصادي» الذى طبقته اليونان استجابة لشروط الصندوق، قد أسفر بالفعل عن تخفيض عجز الموازنة العامة ليقتصر على 2.7% فقط من الناتج المحلى الإجمالي. إلا أن تخفيض الأجور والمعاشات والدعم وتخفيض أعداد العاملين بالجهاز الحكومي، وإجراءات الخصخصة أدت جميعها إلى الإطاحة بنحو ربع الناتج المحلى لليونان، وارتفاع معدلات البطالة لتصل إلى 26.5% ولتتجاوز 50% بين الشباب. متوسط الدخل الحقيقى للمواطن اليونانى انخفض من 20.8 ألف يورو إلى 16.9 ألف يورو. المهزلة الحقيقية أن الهدف المعلن من برنامج الإصلاح، أى تخفيض معدلات الدين الحكومي، لم يتحقق. نسبة الدين الحكومى للناتج المحلى الإجمالى ارتفعت من 130% إلى أكثر من 181%! طبعا كلنا تابعنا الفصل الثانى للمأساة خلال العام الماضى عندما عجزت اليونان مجددا عن سداد مدفوعات خدمة الدين. الاتحاد الأوروبى الذى لا يرغب فى خروج اليونان من منطقة اليورو استمر فى الضغط على حكومتها التى اقترن برنامجها الانتخابى برفض سياسات تجويع الشعب. تجسد الضغط فى البرنامج الذى أقره صندوق النقد الدولى لإقراض اليونان والذى يمكن تلخيصه فى جملة قصيرة: المزيد من التقشف والمزيد من الخصخصة. اتفاقية القرض ركزت على رفع ضريبة القيمة المضافة على المطاعم والفنادق والوقود والمواد الغذائية والأدوية والكتب، ورفع الضريبة على أرباح الشركات الصغيرة وعلى المزارعين، وتخفيض الإنفاق على المعاشات، ومراجعة نظم التفاوض الجماعى بين العمال وأصحاب العمل، فضلا عن تعهد اليونان ببيع أصول مملوكة للدولة بما يعادل 50 مليار يورو يستخدم معظمها فى سداد الديون الخارجية. قائمة المرافق العامة التى تم بيعها تشمل مجالات المياه والكهرباء والاتصالات ومكاتب البريد وخدمات المطار والموانى البحرية، وغيرها. المأساة الحقيقية أن الالتزام بهذا البرنامج وتنفيذه بحذافيره لم ينتشل اليونان من أزمتها الاقتصادية. مرة أخرى ازدادت الأزمة عمقا. اليونان تعلن الآن حاجتها للاقتراض مجددا من الاتحاد الأوروبي، الذى سارع باشتراط دخول صندوق النقد الدولى كطرف فى البرنامج. باختصار انتهى الأمر بدخول اليونان فى حلقة مفرغة من الاستدانة والانكماش الاقتصادي، الذى يجردها من أى إمكانية للاعتماد على قدراتها الذاتية، ويضطرها بالتالى إلى المزيد من الاستدانة كارثة حقيقية بالطبع.. ولكن من يجرؤ على وضع صندوق النقد الدولى موضع المساءلة؟ الصندوق لا يساءل عما يفعل! برامج القروض تقدم عادة باعتبار أن الذى قام بإعدادها هو حكومات الدول المعنية. إذن لا توجد أى مسئولية قانونية على الصندوق فيما يتعلق بالنتائج . بالكثير يمكن أن يعترف، كما هو الحال بالنسبة لليونان، بأنه قد أخطأ فى التحليل أو بالغ فى التفاؤل. أما المسئول عن وضع السياسات وتنفيذها و نتائجها فهو الدولة المقترضة نفسها وسلطاتها الوطنية. بيان رئيس بعثة صندوق النقد الدولى فى مصر بخصوص الاتفاق المبدئى للقرض حرص فى أكثر من موضع على تأكيد مسئولية الحكومة المصرية عما ورد بالاتفاق: فالقرض يدعم برنامج السلطات للإصلاح الاقتصادى الشامل حسبما ورد فى خطة الحكومة التى أقرها مجلس النواب، و يتفق مع ما ورد فى الموازنة العامة التى أقرها مجلس النواب، و مع البرنامج الذى بدأته الحكومة فى 2014 لترشيد دعم الطاقة. باختصار الصندوق يغسل يديه مقدما من النتائج المترتبة على تنفيذ برنامج القرض. والأمر العجيب أن الحكومة نفسها حريصة على إعفاء الصندوق من أى مسئولية قانونية، ولا تكف عن ترديد أنه لم يفرض علينا أى شروط، وأن برنامج القرض مصرى 100% مع سبق الإصرار والترصد! لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى