تنتهى المهلة التى حددها الدائنون لليونان لتقديم برنامجها الذى توضح فيه الإجراءات التى ستتبعها لسداد حزمة القروض التى تسعى للحصول عليها للخروج من أزمتها الاقتصادية. الحكومة اليونانية رفضت البرنامج الذى أعده الدائنون والذى يفرض شروطا تقشفية قاسية على الشعب اليونانى الذى عانى بالفعل على مدى السنوات الخمس الماضية ولم يعد يحتمل المزيد. احتمت الحكومة بالشعب الذى أيدها فى استفتاء عام أعلن فيه رفضه سياسات التجويع التى يفرضها عليه الدائنون. مشكلة اليونان أنها ظلت لسنوات عديدة تعتمد فى تمويل النمو على التمويل الخارجى من البنوك وأسواق المال الدولية. وعندما اندلعت الأزمة المالية العالمية عام 2008 انحسر التمويل الخارجى وارتفعت تكلفته، مما أدى إلى احتدام أزمة الدين الحكومى فى اليونان. لم تكن المشكلة آنذاك أن الدين العام كان يشكل أكثر من 140% من الناتج المحلى الإجمالى. المشكلة الأكبر أن 61% من ذلك الدين كان مستحقا للبنوك الأجنبية وأسواق المال الدولية. ومع احتدام الأزمة تم الإعلان فى يوليو 2011 عن برنامج مشترك بين الاتحاد الأوروبى وصندوق النقد الدولى يتم بمقتضاه توفير قروض بنحو 109 مليارات يورو لسد الفجوة التمويلية التى تحتاجها اليونان، بشرط التزامها بتنفيذ السياسات التقشفية ومراقبة التنفيذ من جانب كل من المفوضية الأوروبية والبنك المركزى الأوروبى وصندوق النقد الدولى. البرنامج اشترط تخفيض عجز الموازنة العامة بحيث لا يتجاوز 3% من الناتج المحلى الإجمالى. وتحقيقا لهذا الهدف ركز البرنامج على تخفيض الإنفاق العام ولم يمس دخول الأغنياء أو يتطرق لزيادة الضرائب المفروضة عليهم. وهكذا انصب البرنامج على تخفيض عدد العاملين فى الحكومة وتخفيض أجور العاملين فى المشروعات العامة، وتخفيض الإنفاق العام على الدواء وزيادة حصة المساهمة فى تكاليف العلاج بالمستشفيات من جانب المواطنين، و زترشيدس فاتورة الدعم للقطاع العائلى، وتخفيض تحويلات الدعم للمشروعات العامة، فضلا عن الالتزام بتحقيق حصيلة تراكمية للخصخصة خلال عامين تصل إلى 6.5% من الناتج المحلى الإجمالى، وتجديد تراخيص شركة الاتصالات وتمديد عقود امتياز المطارات. اليونان التزمت بكل المطلوب ودفعت الثمن غاليا من مستوى معيشة شعبها. تمكنت من تخفيض عجز الموازنة العامة ليقتصر على 2.7% فقط من الناتج المحلى الإجمالى. إلا أن تخفيض الأجور والمعاشات والدعم وتخفيض أعداد العاملين بالجهاز الحكومى وإجراءات الخصخصة أدت جميعها إلى الإطاحة بنحو ربع الناتج المحلى لليونان، وارتفاع معدلات البطالة لتصل إلى 26.5% ولتتجاوز 50% بين الشباب. متوسط الدخل الحقيقى للمواطن اليونانى انخفض. متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى بالأسعار الثابتة تراجع من 20.8 ألف يورو إلى 16.9 آلف يورو. مؤشرات أداء الاقتصاد اليونانى فى عام 2014 جاءت تحمل بعض الآمال بأن تضحيات الشعب قد أثمرت، وأن هناك بوادر للخروج من قاع الانكماش الاقتصادى. لأول مرة منذ أكثر من خمس سنوات يعود الاقتصاد اليونانى لتحقيق النمو، ويتمكن من تحقيق فائض فى ميزان معاملاته الجارية مع العالم الخارجى. صحيح أن المؤشرات الإيجابية مازالت متواضعة وفى بدايتها إلا أن توقعات صندوق النقد الدولى للعام الحالى 2015 ولعام 2016 تؤكد اتجاه معدلات النمو فى اليونان إلى الارتفاع التدريجى. تعزيز اتجاهات النمو ورفع معدلات الاستثمار يحتاج إلى حزمة تمويل من الاتحاد الأوروبى، إلا أنه يشترط فى مقابلها فرض المزيد من السياسات التقشفية على الشعب، وهو ما يعنى فى واقع الأمر الاستيلاء على كل ثمار التحسن المرجو فى أداء الاقتصاد اليونانى وتوجيهها لسداد الديون! الحكومة اليونانية والشعب الذى أيدها يطلبون تمكينهم من الاستمرار فى تحقيق النمو الاقتصادى واقتسام نتائج ذلك النمو بين الشعب اليونانى وبين سداد مستحقات الدائنين. يرفضون العودة إلى قاع الانكماش الاقتصادى ورفع معدلات البطالة وانخفاض الدخول الحقيقية، والاستمرار فى تحميل الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة تكلفة الخروج من الأزمة. نجاح اليونان فى تحقيق فائض فى ميزان عملياتها الجارية يعنى ببساطة أن الاقتصاد الحقيقى اليونانى قادر على التعامل بتنافسية مع العالم الخارجى. كثير من الاقتصاديين على الصعيد العالمى يرون أن اليونان يمكن أن تعطى دفعة قوية لاقتصادها لو كانت حرة فى تخفيض قيمة عملتها المحلية بحيث تصير صادراتها وخدماتها أرخص سعرا أمام العالم الخارجى، لذا يطالبونها بالخروج من منطقة اليورو وأن تكون لها عملتها المستقلة. الاتحاد الأوروبى لا يرغب بالطبع فى خروج اليونان من منطقة اليورو إلا أنه مستمر فى الضغط على حكومتها التى اقترن برنامجها الانتخابى برفض سياسات تجويع الشعب. صندوق النقد الدولى من جانبه يحاول غسل يديه من تلك التهمة. يطالب الاتحاد الأوروبى بمنح اليونان حزمة التمويل المطلوبة وإعادة جدولة الدين القائم لمنحها وقتا أطول للسداد. صندوق النقد الدولى يريد منح اليونان الفرصة لسداد قسط 1.5 مليار يورو استحقت له فى 30 يونيو، لأن سداد هذا القسط سيسمح لها بالسحب من قروضه السارية والتى لم يتم استخدامها بالكامل بعد. الكرة الآن فى ملعب الحكومة اليونانية التى تتطلع إليها شعوب العالم لتقديم نموذج لبرنامج اقتصادى يكفل استمرار النمو والانتظام فى سداد الدين وتحميل الطبقات القادرة عبء الخروج من الأزمة. فهل تتمكن حكومة اليونان من تقديم هذا النموذج؟ لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى