اهتم والده بتربيته وتعليمه. وشب الفتي معاوية القليوبي مؤمنا بالقيم الفاضلة, ومعتصما بالأخلاق الحميدة. وقد أعانه ذلك علي التفوق في دراسته في الأزهر الشريف. وأصبح أستاذا في رحابه. وتزوج من الفتاة جليلة. وكانت حياتهما مترعة بالحب والود, والبنات والبنين. وعندما اندلعت الثورة العرابية, تحمس لها الشيخ معاوية وانضم إلي صفوفها. وما أن فشلت لأسباب عدة منها تواطؤ الخديو توفيق واستدعاؤه الأنجليز لاحتلال مصر لحماية عرشه, حتي اعتقلوا الشيخ معاوية مع من اعتقلوا. وحكموا عليه بالسجن خمس سنوات. وتمكنت السيدة جليلة, بفضل قوة ارادتها, من تدبير شئون أسرتها بشيء من المال ورثته عن أبيها, وعندما انقضت مدة سجن زوجها, وجد نفسه في دنيا غريبة. فقد انزلقت الثورة في بئر النسيان. واعتبرها القوم كأنها رجس من عمل الشيطان! واستطاع الشيخ معاوية العمل مدرسا في مدرسة أهلية, لكنه سرعان ما مات حزنا وكمدا, غير أن زوجته وابنته الكبري راضية أقامتا له في وجدانهما نصبا تذكاريا للبطولة. وخلعا علي أحمد عرابي كرامات وخوارق باعتباره بطلا شعبيا اسطوريا, وذلك اكراما للشيخ معاوية. {{{ وهذا ما صوره الروائي العبقري نجيب محفوظ في القضايا المتناثرة من صفحات روايته الرائعة حديث الصباح والمساء, التي نشرها عام 1987 لكن ثورة عرابي, برغم دفاع السيدة جليلة وابنتها عنها, قد تعرضت لمؤامرة استهدفت طمس اشراقاتها الشعبية, وشيطنة أبطالها, ورجمهم بالأكاذيب الاستعمارية والافتراءات الخديوية. وعندما تمكن عبد الله النديم صحفي الثورة وخطيبها من الهرب من الاعتقال, واختفي في القري والنجوع نحو تسع سنوات لم يتوقفوا عن مطاردته حتي وقع في قبضتهم. وحكموا عليه بالنفي من البلاد. لقد انهارت ثورة عرابي, لكن روح الأمة لم تنكسر. وهذا ما أكده عبد الله النديم في مسيرته الوطنية من حواري الاسكندرية حيث ولد, وحتي لحظة موته, أو بالأحري استشهاده غريبا ووحيدا في المنفي بتركيا عام.1896 لكن ثورة عرابي تمردت علي مؤامرة هزيمتها, واستردت اعتبارها في سياق الأطوار اللاحقة للحركة الوطنية المصرية التي لا يخمد توهج جمرها المقدس. ودخل عرابي وأبطال ثورته التاريخ من موقعة ميدان عابدين. ففي هذا الميدان تحدي عرابي الخديو الذي ظن أنه ورث مصر وأستحوذ علي مصائر شعبها. وقال عرابي للخديو في بسالة.. لقد خلقنا الله أحرارا, ولن نورث أو نستعبد بعد اليوم {{{ وظلت كلمة عرابي عن الحرية ومناهضة الاستبداد تحلق في سماء مصر. ولم يستطع الطغاة تمزيقها أو الفتك بها. وتمحورت من حولها إرادة الشعب في ثورته الكبري في 25 يناير 2011 وقد أتي إلي ميدان التحرير عبد الله النديم وفي صحبته خالد سعيد ابن مدينته الاسكندرية. كما هرع إلي الميدان أحفاد الشيخ معاوية وأقرانهم, وهم كثر. وانهارت أجهزة القمع والقهر. وكان السقوط مدويا لرموز نظام تحالف الاستبداد والفساد. وتبلورت شعارات الثورة وأهدافها حول الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. واقامة دولة القانون والحكم المدني الرشيد. ومما يدعو للأمل, أنه برغم ضراوة الثورة المضادة, إلا أن ثورة 25 يناير تؤكد للقاصي والداني أنها ولدت لتبقي, وسوف تؤتي ثمارها. ولم يعد في الإمكان شيطنتها, ولأرجم أبنائها بالافتراءات. نعم. إن ثورة 25 يناير ستبقي صامدة وعفية وتؤتي ثمارها المرجوة.. وتأملوا, أن أزعجتكم الأحداث الراهنة, حديث الصباح والمساء لنجيب محفوظ عن ثورة عرابي والشيخ معاوية.. وتذكروا السيرة الوطنية العطرة لعبد الله النديم. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي