تسع سنوات عجاف أمضاها عبد الله النديم هاربا من السلطة. واختفي في قري مصر, وكان الزمن صعبا وعصيبا. فقد أوقع الخديو توفيق والغزو البريطاني بثورة أحمد عرابي في11 يوليو1882, وتخاذل الجميع وتنصلوا من الثورة, وصبوا جام غضبهم علي عرابي. لكن عبد الله النديم صحفي الثورة وخطيبها لم يستسلم, وحمل حلم الثورة في قلبه واختفي ورصدت السلطة جائزة مالية كبري لمن يعثر عليه حيا أو ميتا, وعندما اكتشف أحد العملاء سره, اقتادوه للتحقيق معه, واندهش النديم لأن وكيل النيابة قاسم أمين أحسن معاملته, فقد كان يعرف قدره, غير أن الخديو أمر بنفيه الي يافا بفلسطين. وعندما سمحوا بعودته الي مصر, أصدر صحيفة الاستاذ, وتجددت علي صفحاتها أحلام الثورة, وصدرت الأوامر بنفيه واستقر به المقام في تركيا. وهناك مات وحيدا وحزينا, وكان عمره أربعة وخمسين عاما. وكان عبد الله النديم, ولايزال, أروع تجليات الوطنية المصرية, وتطلعها للديمقراطية والعدالة الاجتماعية, وكان هذا ما أفصح عنه وجاهر به عندما أصدر صحيفته الشهيرة التنكيت والتبكيت في الإسكندرية في اكتوبر.1881 وكانت اشراقات ثورة أحمد عرابي تضيء دروب الوطن, ولذلك انتقل النديم الي القاهرة بدعوة من عرابي, وأصدر صحيفة الطائف لتعبر عن الثورة التي تفجرت ابان مواجهة عرابي مع الخديو توفيق في ميدان عابدين, فعندما سأل الخديو عرابي عن أسباب حضوره, قال: جئنا للمطالبة بإسقاط الحكومة المستبدة, وتشكيل مجلس للنواب, والتصديق علي القوانين العسكرية. وكان رد الخديو متعجرفا مستفزا عندما قال.. لاحق لكم في هذه المطالب, فقد ورثت البلاد, وما أنتم إلا عبيد إحساننا. واستبد الغضب بعرابي وتحدي الخديو: لقد خلقنا الله أحرارا, ولم يخلقنا تراثا وعقارا, وسوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم. ولكن الثورة سرعان ما وقعت في براثن المؤامرة, فقد صدرت فتوي من مقر الخلافة الاسلامية بتركيا تعتبر عرابي مارقا, بينما كانت السفن الحربية البريطانية تتجه نحو الاسكندرية لدكها بالمدافع, وهرع الخديو الي قصره بالاسكندرية ليحتمي بالغزاة. وانهزمت قوات عرابي, وتم نفيه, واختفي النديم, لكنه ظل ثائرا يحلم بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية, لقد كان يطمح لتأسيس بدايات جديدة لوطن جميل. وهنا يقول الراوي.. لم يكن غريبا ولا عجيبا أن تتجلي أفكار النديم في ميدان التحرير إبان ثورة25يناير, فهذه الثورة تحقق أحلامه في انهاء النظام القديم والاطر العتيقة توطئة لوطن الديمقراطية والكرامة الانسانية. ويخطئ من يظن انه في الإمكان إجهاض هذا الحلم.. ذلك ان ثورة الميدان حرثت الأرض المصرية من أقصاها إلي أدناها, وطرحت واقعا سياسيا وثقافيا جديدا, فقد قطع الثوار كل الصلات بالموروثات القديمة والعتيقة, ولم يعد ممكنا اعادة انتاج نظام الاستبداد والفساد, ولن تسمح ثورة الميدان بتسلل أي ديكتاتورية جديدة الي المشهد. ذلك ان الرأي والرأي الآخر وتبادل السلطة هو العنوان الجديد للزمن الآتي, مهما كانت التحديات. ويؤكد الراوي انه لم يعد للحاكم قداسة يخلعها عليه أي أحد. ووثيقة الازهر التي تعانق أهداف الثورة والدولة الديمقراطية خير شاهد علي ذلك, وهي أبرز وثيقة مستنيرة وعصرية منذ نشر الشيخ علي عبد الرازق كتابه المهم الإسلام وأصول الحكم عام.52 نعم.. هذه هي مصر عبد الله النديم وثوار الوطن الجميل الآتي, فلم يعد ثمة ما يثير القلق بعد أن أسقطت ثورة25يناير حاجز الخوف, واتخذت من ميدان التحرير ساحة ومنبرا للديمقراطية المباشرة. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي