لا تظهر فى الإعلام إلا قليلا، ولا تدلى بأحاديث للصحافة إلا نادرا، مما جعل البعض يصفها ب«السيدة التى تعمل فى صمت».. يعرفها القارئ من خلال أبحاثها العديدة، وكتبها الكثيرة، والتى من أهمها «فاروق من الميلاد إلى الرحيل»، و«فاروق الأول وعرش مصر: بزوغ واعد.. وأفول حزين 1920 1965»، و»مصر فى الحرب العالمية الأولى»، و«عرابى ورفاقه فى جنة آدم»، وموسوعتها عن القضاء المصرى، وكتبها ودراساتها عن مذكرات نوبار، وسعد زغلول.. إلخ من الروائع البحثية التى يضيق المقام عن ذكرها. ولعل أهمية حوارنا مع الدكتورة لطيفة سالم، أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر المتفرغة بكلية الآداب بجامعة بنها، تنبع من أهمية المتحدثة، فهى دائما مشغولة بالبحث، وبالتأريخ، فهى رائدة من رواد الدراسات التاريخية، وأستاذة جامعية منذ 1988، لم تكف عن الكتابة، وقدمت أبحاثا يمكن أن تُرقى عشرات الباحثين إلى درجة الأستاذية، وحصلت منذ 15 عاما على جائزة الدولة التقديرية. لكم كتابات متعددة عن الصحافة والحركة الوطنية المصرية، والاتجاه العربى.. فما هى رؤيتكم لها؟ وكيف كانت بداياتها؟ الصحافة أداة مهمة جدا لبلورة الرأى العام وتشكيله، ودورها كذلك مهم، لذلك استحقت أن يطلق عليها «صاحبة الجلالة»، والسلطة الرابعة، بعد السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، إذا كانت محكومة بميثاق شرف، وبالضوابط والمعايير المتفق عليها بين شيوخ المهنة، لاسيما فى ظل هذا السيل الجارف، والموج المتلاطم من «السوشيال ميديا»، والسموات المفتوحة، والعالم الذى أصبح قرية كونية صغيرة، إذا عطس أحد من أقصى مكان فيه، شمّته أخوه من أدنى مكان فى الأرض. عند قدوم الحملة الفرنسية، ومجىء نابليون بالمطبعة، كانت الصحافة عبارة عن مطبوعات ونشرات، وكانت هذه الفترة قصيرة جدا، ولم تترك أثرا فى الناس. لكن مع بداية عهد محمد على، واستراتيجيته فى بناء مصر الحديثة، كانت الصحافة فى بؤرة اهتماماته، فأنشأ جريدة الوقائع المصرية، التى كانت تصدر باللغة التركية فى أول الأمر، ثم ألحقت بها الترجمة العربية. كانت بداية الصحافة بقوة فى مدينة الإسكندرية، حيث البورصة، والميناء، وكان هناك انقسام شبه تام بين الفئة التى تتطبع بطبائع الأجانب، والفئة الفقيرة. وصدرت جريدة الأهرام فى بدايتها باسم «صدى الأهرام»، وقد اطلعت على الأعداد الأولى منها. ولما فتح الله على صاحب رأس المال «آل تقلا»، اتجه إلى القاهرة، فكانت بداية حركة التنوير، فنستطيع أن نقول إن الأهرام خالدة خلود مصر. وصدرت فى تلك الفترة صحف أخرى كمصر، والوطن، والمحروسة، ولكن لم تأخذ تأثير الأهرام. كيف كان تناول الأهرام للقضايا فى تلك الفترة؟ أخذت الأهرام من البداية خطا معينا تحت حماية آل تقلا، رغم تعرضهم لضغوط قانون المطبوعات، فلم تنجرف مثلا مع الثورة العرابية، ولكن كانت ترى أن التغيير لا بد أن يأتى عن طريق التعليم والثقافة، لا عن طريق القوة، وهذا كان رأى كثيرين من رواد التنوير فى ذلك الوقت مثل على مبارك. ولم تكن الأهرام مرائية أو منافقة، وإنما التزمت خط الاعتدال والوسطية. وعنما كانت بقية الصحف فى ذلك الوقت تنادى بالثورة، كانت الأهرام تمثل المستوى الراقى فى الثقافة، إذ جمعت بين المقالة، والخبر، والتحليل، فكانت كالبحر الزاخر بكل اللآلئ، يجد فيه القارئ المتخصص حاجته. ولما جثم الاحتلال على صدور المصريين فى نهاية القرن التاسع عشر، لم تكن الأهرام مؤيدة له، أو أداة من أدواته، وإنما حاولت أن تكون على حيادها، عكس بقية الصحف الموجودة فى ذلك الوقت، ولذلك دائما ما أوجه تلامذتى وطلابى إلى الأهرام لتلمس المصداقية. وأتذكر تلك المساجلات والمعارك الأدبية الراقية على صفحات الأهرام بين رواد التنوير فى تلك الفترة كقاسم أمين، والشيخ محمد عبده، ورفاعة الطهطاوى، وكانت تلك المساجلات تُثرى الناس أيما ثراء. ولم يكن من يكتبون فى الأهرام يخضعون للتيارات السياسية، على خلاف كتاب أخبار اليوم فى ذلك الوقت، رغم تقديرى لتلك المؤسسة، واعتزازى بها. ومع قيام ثورة يوليو عام 1952، انحازت الأهرام لها، وكان هذا أمرا طبيعيا، وكان الأستاذ هيكل، مهندس السياسة الصحفية فى ذلك الوقت، يمدّنا بمراجع رئيسية كنا نعتمد عليها اعتمادا رئيسيا كأساتذة وباحثين. فالأهرام واجهة صحفية جيدة جدا. صحيح أنه أتى عليها حين من الدهر، تعثرت فيها، وكان هناك ركود، لكن رغم ذلك لا تزال الأهرام تفرض نفسها على القراء. وكانت أخبار الأهرام لا تقتصر على أخبار مصر فقط، بل كانت تغطى ما يحدث فى العالم فى ذلك الوقت. على ذكر قضية التناول وكمؤرخة كبيرة، لماذا نرى قراءات متعددة للحدث التاريخى الواحد؟ نعم، وهذا ضرورى، لأن التاريخ ليس كيمياء أو مسائل رياضية. فالتاريخ يجب أن يحتوى على عدة قراءات. بالطبع لابد من بعض الحياد، وشىء من الموضوعية، ولكن لا يوجد حياد كامل أو موضوعية تامة، فهذا فخ يقع فيه البعض متوهمين أن التاريخ حادثة ثابتة وواضحة، ولا تحتاج إلا إلى قراءة واحدة. وأضرب لك مثالا على ذلك، فحين أكتب عن الحركة الوطنية المصرية، ألاحظ أننى متحمسة بشدة، رغم أننى لا أنتمى إلى أى حزب أو تيار سياسى، ولكن حين أتناول الثورة الفرنسية، أجد نفسى فى حياد شبه تام. والسبب راجع إلى أن أهوائى ومشاعرى الخاصة تتحكم وتتداخل دون قصد فى السطور التى أكتبها عن الحركة الوطنية المصرية. وهذا يجعلنى أكرر أن الكتابة فى التاريخ ليست كيمياء أو مسائل حسابية يمكن التأكد منها، ولا تحمل خطأ. العلوم الاجتماعية بها وجهات نظر، ولكن هذا يخضع أيضا للعقل، فلا يمكن أن نستسلم لناصرى يكتب عن عصر السادات. وأعود هنا لأكرر أن كل هذا يخضع لقدرة المحقق والباحث التاريخى الذى لابد من أن يمتلك رؤية الطير فى قراءة المذكرات التى لابد أن تحمل ذاتية صاحبها. ما ذكرياتك مع الأهرام؟ أتذكر عندما عرض علينا الدكتور يونان لبيب رزق رحمه الله فكرة إنشاء كتاب «الأهرام ديوان الحياة المعاصرة»، تحمسنا لها كثيرا. وعندما كنت صغيرة فى السن، وفى بواكير مرحلة الدراسة، كنت أركب الديزل، فأجد الناس يناقشون الموضوعات التى يتناولها ديوان الأهرام، فكنت أدلى بدلوى من فرط حبى للأهرام، وأوضح للناس ما استعصى عليهم فهمه، الأمر الذى نستطيع أن نقول معه إن الأهرام هى الوعاء الحاضن لثقافة الأمة، وستبقى إن شاء الله فى قلوب الناس ووجدانهم إلى أبد الآبدين، ودهر الداهرين. وكان والدى رحمه الله يحب الأهرام حبا جما، فغرس فينا هذا الحب. وفى مرحلة البحث، وعند إعداد أطروحتى للماجستير، كنت أركز على الأهرام التى كانت رمانة الميزان، إلى جانب الصحف: المؤيد، والمقطم، واللواء. وكان الأستاذ هيكل يعرض علىّ الكتابة فى إصدارات الأهرام المتعددة، ومراكزها المتخصصة، ولدى إلى الآن مجموعة مقالات أحتفظ بها. وكنت أحب بريد الأهرام للمرحوم الأستاذ عبدالوهاب مطاوع، وأتابع بشغف القصص الإنسانية التى يعرضها، والتى كانت تحرك الفؤاد، وتدمى القلب. ترى ما الفرق بين أهرام الأمس وأهرام اليوم؟ بلا شك حدث تغيير، وأصبحت توجد معارضة، وباتت هناك جرأة فى تناول القضايا المختلفة، ولكنه تناول راق، ومغلف بالأدب، على خلاف كثير من الصحف التى يصل فيها النقد إلى مستوى التجريح، والإهانة. فلا يزال للأهرام رصيد من المصداقية عند الناس. كما أن الأهرام على طول عمرها المديد لا توجد لها «الرنة الكبيرة» من الفضائح، وعناوينها بعيدة عن الإثارة والتهييج. وما ملحوظاتك على الأهرام؟ الأهرام دائما ما تطور من نفسها، وافتقدنا قامات صحفية كبيرة، ولكن عزاؤنا أن هناك شبابا صاعدا وواعدا يمكن أن يعوضونا عنهم، وستبقى الأهرام شامخة وخالدة بإذن الله، وأرجو أن تكون فى رقى دائما، وألا تتأثر بأخلاقيات صحف أخرى، وسلوكيات طرأت على مجتمعنا بعد ثورة يناير، وأن ترفع من مستوى الناس، وأن تحافظ على الأسلوب الراقى فى تناول مختلف القضايا. أخيرا ماذا تقولين للأهرام فى ذكرى صدور أول عدد منه؟ أقول له يا حبيبى يا أهرام إن شاء الله ستكون أعدادك إلى ما لا نهاية، ودائما تكون أقلام كتابك تنفذ إلى قلوب الناس ووجدانهم، وأرجو أن يكون توزيع الأهرام مطلا من علٍ على كل ما سواها من الصحف الأخرى.