هناك مسافة زمنية تقرب من قرن ونصف القرن تفصل بين نشأة الأهرام عام 1875 وبلوغها العام الحادى وأربعون عاماً فى 5 أغسطس 2016 وعلينا أن نعبر هذا المدى الزمنى الطويل بتأن وتأمل لاستلهام انجازاتها واخفاقاتها التاريخية وسبر أغوار حاضرها بتعقيداته وتشابكاته السياسية والمجتمعية وذلك سعيا لاستشراف مستقبلها القادم والآتى. وعندما نستطلع المراحل التاريخية التى مرت بها الأهرام كجزء عضوى من تاريخ مصر الحديث والمعاصر تصادفنا عدة حقائق: أولاً: تتميز الأهرام بأنها أطول الصحف المصرية والعربية والأفريقية عمراً وتماثلها فى الاستمرارية صحيفة الوقائع المصرية التى استمرت فى الصدور منذ 3 ديسمبر 1828 حتى اليوم ورغم نشأة الأهرام فى مصر على أيدى آل تكلا القادمين من الشام هرباً من سطوة الحكم العثمانى إلا أنها حرصت منذ البداية على الاحتفاظ بالخيط الرفيع الذى يفصلها عن سلطة الاحتلال البريطانى والقصر مما حفظ لها بقاءها بعيدا عن القيود التشريعية والسلطوية إذ لم تعانى الأهرام من الممارسات السلطوية مثلما عانت الصحف المصرية الأخرى ذات التوجه الوطنى والشعبى مثل صحف اللواء (مصطفى كامل) والأخبار (أمين الرافعى) والبلاغ (عبد القادر حمزة) والصحف الوفدية (المصرى – صوت الأمة – الوفد) والصحف اليسارية (الملايين والجماهير والحساب) والجهاد (توفيق دياب) وصحف مصر الفتاة والأخوان وصحف سلامة موسى. ثانياً: حاولت الأهرام عبر تاريخها الطويل الالتزام بدورها المهنى فلم يسجل تاريخها مواقف مؤيدة أو مساندة للثورات والانتفاضات الوطنية خصوصاً ثورة عرابى 1881، ثورة 1919 وانتفاضة الطلبة 1935 وانتفاضة الطلبة والعمال 1946 غير أن ذلك لم يحل دون ارتباطها بالنفوذ الفرنسى منذ نشأتها حتى توقيع الاتفاق الودى بين بريطانيا وفرنسا عام 1904 ولذلك لم تكن من الصحف المحسوبة لصالح الاحتلال البريطانى وأعتبرتها الحركة الوطنية المصرية صحيفة غير معادية. كما لم تكن ضمن الصحف العديدة التى صودت تراخيصها خلال حكم إسماعيل صدقى ومحمد محمود باشا وسائر الحكومات التى كانت تدين بالولاء التام للاحتلال والقصر. ثالثاً: بصدور قانون تنظيم الصحافة مايو عام 1960 ثم صدور قانون المؤسسات الصحفية فى مارس 1964 أدمجت الأهرام ضمن منظومة الصحف القومية مع سائر المؤسسات الصحفية ذات الملكية الخاصة مثل دار الهلال وروزاليوسف وأخبار اليوم وأصبحت الأهرام منذ ذلك الوقت تابعة للتنظيم السياسى الحاكم وأنطوت صفحة استقلالها النسبى التى حرصت عليها طوال الفترة السابقة على ثورة يوليو 1952. وأختارت القيادة السياسية 1957 أحد الصحفيين البارزين المنتمين صحفياً لمدرسة أخبار اليوم محمد حسنين هيكل لرئاسة تحرير الأهرام وقد أستطاع بقدراته الخاصة ومن خلال علاقته الوثيقة بالسلطة الناصرية أن يحقق المعادلة الصعبة من ناحية وأن يحقق نهوضاً مؤسسياً ومهنيا للأهرام مما جعلها تحتل مكانة رفيعة عربياً وعالمياً. ولكن بعد رحيل عبد الناصر سبتمبر 1970 ومجئ السادات الذى اختلفت جذرياً سياساته العربية والدولية عن النهج الناصرى تعرضت الأهرام منذ ذلك الحين لعدة أزمات بنيوية شملت سياستها التحريرية وتوجهاتها السياسية والمجتمعية رغم استمرار حرصها على المستوى المهنى المتميز من خلال التزامها بالضوابط المهنية والأخلاقية مع استمرار تبعيتها لتوجهات السلطة الحاكمة إذ شهدت الأهرام فى تلك المرحلة غياب المعايير الموضوعية فى اختيار رؤساء تحريرها الأمر الذى أدى إلى غلبة المتغيرات السياسية والاقتصادية على الأداء المهنى والدور الاجتماعى والثقافى للأهرام حيث أنتزعت الإعلانات المساحة المهنية بأبعادها الاجتماعية والثقافية وأصبح لا الصوت الأعلى فى تحديد السياسة التحريرية للأهرام علاوة على المؤثرات الأمنية والاختراقات الخليجية وسطوة الحقبة التغطية، وقد تفاقم هذا الوضع على مدى ثلاثين عاماً خلال حكم حسنى مبارك إذ اهتزت مصداقية الأهرام لدى جمهور قرائها ولم تعد الصوت المعبر عن حقوق الوطن والمواطنين. يمكن القول أن الأهرام استطاعت أن تحقق إنجازات مهنية متميزة فى حقل الصحافة المصرية والعربية تمثل فى خلق كيان مؤسسى مرموق أتيح لها تأسيسه خلال الفترة الناصرية وتم تطويره فى المراحل التالية وأصبحت تضم فريقاً من اكفأ الكوادر الصحفية علاوة على انفرادها بمستحدثات تكنولوجيا الاتصال فى الطباعة والنشر فضلاً عن تعدد الإصدارات فى مجالات الاقتصاد والسياسة والشباب والمرأة والطفل علاوة على إفساح المجال فى صفحات الرأى لنخبة متميزة من المفكرين والمبدعين. وإذا كانت الأهرام قد نجحت فى عدم الالتحاق بالسلطة الحاكمة منذ نشأتها مروراً بالفترة الليبرالية حتى قيام ثورة يوليو والإصرار على تأدية دورها المهنى إلا أنها لم تنتم للقضايا الوطنية والاجتماعية للشعب المصرى بنفس القدر الذى انتمت فيه إلى صوت النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة ولذلك أدرجت الأهرام ضمن منظومة الصحف النخبوية إذ أصبحت تضم العديد من التيارات الفكرية والسياسية التى تشمل جميع ألوان الطيف السياسى والاجتماعى ولكن ظلت السياسة التحريرية للأهرام مرهونه بإرادة وتوجهات السلطة الحاكمة مضافاً إليها نفوذ مراكز القوى الاقتصادية والأمنية وأباطرة السوق الاقليمية والعالمية هذا هو حاضر الأهرام فماذا عن مستقبل هذه الصحيفة التى كانت تعد درة الصحافة العربية ما هو المستقبل الذى ينتظرها والذى تقف حالياً على أبوابه خصوصاً بعد ثورة 25 يناير 2011 التى أطاحت بحكم آخر المنتمين إلى ثورة يوليو. مستقبل الأهرام: سوف نحاول الإجابة عن سؤال يطرح نفسه بإلحاح فى ضوء ما ذكرناه عن الإنجازات الصحفية والتقلبات السياسية وسائر جوانب التجربة المهنية الثرية التى عاشتها الأهرام ما هو مستقبل الأهرام مهنياً واجتماعياً وثقافياً؟ علماً بأن سياستها التحريرية والإعلانية لن تتحدد بمعزل عن مجمل التغيرات المجتمعية المؤثرة فى مصر خصوصاً ما يتعلق بطبيعة السلطة السياسية الحاكمة وتوجهاتها الاقتصادية والاجتماعية. هناك ثلاثة سيناريوهات: السيناريو المرجعى: أى استمرار الأوضاع الراهنة بالنسبة للأهرام كمؤسسة صحفية من ناحية وباعتبارها جزءاً من منظومة الإعلام المصرى ككل واستمرار سياستها التحريرية التابعة بصورة مباشرة أو غير مباشرة للقوى المتنفذة سياسياً واقتصادياً وأمنياً مع اعتمادها مهنياً على كوادر تتفاوت كفاءتها والتزامها المهنى ومحاولاتها الدؤوبة للتعافى من تركة الديون الناتجة عن سوء إدارة بعض رؤسائها السابقين واستمرار سطوة الإعلانات وتداخلها مع التحرير. السيناريو البديل: (السيناريو الإصلاحى) يشترط هذا السيناريو حدوث تغييرات جزئية تؤدى إلى تحقيق بعض التعديلات التى تشمل إقرار وتفعيل حق الصحفيين فى اختيار قياداتهم المهنية والإدارية والالتزام بالمعايير الديمقراطية فى إدارة المؤسسة من الداخل وتشمل دمقرطة علاقات العمل بين الزملاء ورؤسائهم وإقرار وتفعيل مبدأ العدالة فى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمهنية للصحفيين بالأهرام ومراعاة الاهتمام بتدريب وتثقيف الكوادر الشابة فى المؤسسة فى إطار نظام مستدام يرتبط بالترقيات وبرامج عصرية تتيح للصحفيين إمكانية التنافس الكفء فى سوق العمل الإعلامى والصحفى. كما يستهدف هذا السيناريو الزام قيادات الأهرام بضرورة الفصل بين الإعلان والتحرير تطبيقاً لقانون سلطة الصحافة رقم 95 لعام 1996 وضرورة مراعاة العدالة فى التغطية الصحفية للواقع المجتمعى بمجمل شرائحه الطبقية فى الريف والحضر وعدم التركيز على أنشطة النخب فى العاصمة والاسهام فى تأسيس صحافة إقليمية من خلال تخصيص فروع للأهرام فى مختلف المحافظات بحيث يصبح لدينا منظومة جديدة تشمل أهرام أسيوط وأهرام مطروح وسيناء... الخ وعدم الاكتفاء بالاهتمام المحدود بأهالى الأقاليم كما يحدث حالياً. ويقضى السيناريو الإصلاحى بضرورة تخصيص إدارة أو شعبة لبحوث الجمهور والرأى العام تتخصص فى إجراء استطلاعات دورية للقراء والرأى العام . والسعى لتفعيل الالتزام بميثاق الشرف الصحفى فى الممارسة الصحفية. السيناريو الثالث: يفترض حدوث ثورة شاملة فى السياسة التحريرية والإدارية والمالية للأهرام ويرتهن ذلك بحدوث تغييرات جوهرية فى علاقة السلطة السياسية الحاكمة ومراكز النفوذ الاقتصادى والأمنى بمهنة الإعلام المصرى قانونياً وتشريعياً مما يسمح بالحفاظ على الاستقلالية المهنية والفكرية للمؤسسات الصحفية المندرجة فى منظومة الصحافة القومية وتتصدرها صحيفة الأهرام. كما يستهدف هذا السيناريو تغيير أجندة الأولويات سواء فى علاقة الصحيفة بالسلطة السياسية ومراكز المال والأعمال أو المؤسسة الأمنية أو مراكز الاختراق النفطى أو علاقة الأهرام بجمهور القراء ومراعاة تفعيل حقه فى المعرفة والاتصال مما يعنى تحجيم نفوذ المعلنين وإقرار الضوابط المهنية والأخلاقية للممارسة الصحفية والإعلانية فيما يعرف بمواثيق الشرف الصحفى والإعلانى مع إعداد سياسة شاملة لتطوير الوعى المهنى والثقافى والتكنولوجى للكوادر الشابة من الصحفيين بالأهرام مع السعى الجاد لدمقرطة علاقات العمل الصحفى سواء بالمصادر خارج المؤسسة أو بين الزملاء والرؤساء داخل الإدارات الصحفية والتكنولوجية بمؤسسة الأهرام ولن يتحقق أى من هذه التغييرات إلا إذا تم التخلص من تركة الديون وتصحيح مسار الإعلانات وتحديد العلاقة بالسلطة السياسية بحيث لا تجور على الأصوليات المهنية وأخلاقياتها. ويبقى أخيراً السؤال أى هذه السيناريوهات أقرب إلى صنع السنوات المقبلة لصحيفة الأهرام؟