كل الدلائل والمؤشرات تقول بتراجع واضح فى معدلات الإرهاب فى مصر. الدراسات التى يقوم بها المركز الإقليمى للدراسات الإستراتيجية لمتابعة حوادث الإرهاب، وأعمال العنف، سواء التى تقوم بها جماعة الإخوان، أو منظمات إرهابية أخرى، تؤكد هذه الحقيقة. ورغم هذا النجاح، التى تؤكده دراسات أجنبية أخرى، فإن اليقظة واجبة خلال هذه المرحلة الدقيقة. فما حدث خلال الأسابيع الماضية، وقبلها الشهور السابقة، فى العديد من دول العالم تشير إلى أن الإرهاب يتصاعد بشدة. التفسير الذائع هو أن الضغط العسكرى المستمر على إقليم «دولة الخلافة» فى الرقة والموصل عن طريق قوات التحالف الدولى دفع جماعة «داعش» إلى نشر عملياتها فى باريس وبروكسل ونيس وعدة مدن ألمانية وبغداد ودكا فى بنجلاديش وأنقرة وإسطنبول. والتفسير الآخر هو أن «الداعشية» أو الفكر الإرهابى الداعشى قد خلق تيارا فكريا للإرهاب بما يكفى لكى يخرج أفرادا عن الوعى السليم إلى الحالة الإرهابية ومن ثم ارتكاب أعمال عنف واسعة النطاق كما جرى فى «نيس» عندما قام محمد بوهلال التونسى باقتحام جماهير تحتفل بالعيد الوطنى الفرنسى بعربة نقل فقتل 84 فردا، غير مئات الجرحي، ذات اليمين وذات اليسار. شاب له من العمر 17 عاما قام بمهاجمة قطار ومعه بلطة وسكين فى «وورتسبوج» الألمانية فجرح أربعة حتى قُتل، بينما قتل انتحارى آخر 15 فى مدينة أخرى «أنزباك» بتفجير ذاته. وفى يوم 26 يوليو قام شاب باقتحام كنيسة فى مدينة «روان» بإقليم نورماندى لكى يذبح قسا سنه 84 عاما بعد أن أسر ثلاثة آخرين. المدهش أن عمليات العد والحصر العالمية للحوادث الإرهابية، فضلا عن التغطية الإعلامية تكاد لا ترصد شيئا على الجبهة المصرية، لا عندما كان المصريون يُقتلون، ولا عندما نجح المقاتلون المصريون جيشا وشرطة فى إيقاف والحد من العمليات الإرهابية. تماما كما كانت الدهشة واجبة عندما لم يهتم أحد عندما أسقط المصريون حكم الإخوان فى بداية لتراجع الأنظمة الدينية فى المنطقة، وضربة موجعة لتيار الفاشية الدينية الجديد فى العالم. ما يهمنا على أى حال ثلاثة أمور: أولها أن الموجة الحالية فى العالم، والتى لم تترك بلدا غربيا ولا عربيا ولا إسلاميا ولا غير إسلامي، ولابد أنها سوف تحاول الاقتراب من مصر بطريقة أو بأخري؛ وعلى مصر أن تكون مستعدة لهذه المواجهة وهى تخوض معارك أخرى على الجبهة الاقتصادية. وثانيها أنه رغم شيوع فكرة «الذئاب» المنفردة المتأثرة عقليا بالفكر الإرهابي، فإن الشيوع يأتى من حركة منظمة على أدوات المعرفة المختلفة، وأهمها وسائل التواصل الاجتماعي، تقوم بها منظمات عريقة فى الإرهاب سواء كانت «داعش» أو «القاعدة» أو حتى تفريعات مختلفة من الإخوان المسلمين. وثالثها أن ضرب الإرهابيين فريضة أمنية واقتصادية وسياسية، ولكن مواجهة الإرهاب فى منابعه فريضة إستراتيجية؛ فالانتصار على الإرهابيين يأتى فى معارك متتابعة، أما النصر على الإرهاب فهو النصر فى الحرب كلها. ولا يمكن حدوث ذلك إلا إذا جرى النصر فى عقول وقلوب تم وضعها على مائدة الانحراف الأخلاقى والوطنى والفكري. هذه النقطة الأخيرة هى الضرورة الإستراتيجية بعينها، ورغم أن الرئيس عبد الفتاح السيسى قد تنبه مبكرا إلى أهمية تجديد الخطاب الديني، وبات يقوم بطرح الموضوع فى المناسبات السنوية المناسبة، إلا أن الأمر كله لم يحدث فيه تقدم يذكر ربما لأنها باتت كما لو كانت مسئولية الأزهر ووزارة الأوقاف، وباختصار باتت المسألة «دينية» فى المقام الأول. ولكن الحقيقة غير ذلك، وهى أن المسألة إستراتيجية تقوم على معرفة العدو، وتحليل قدراته وقواه، واستحضار الوسائل المناسبة للحالة، ومعرفة متى يحدث الهجوم، وأين يكون الدفاع. ببساطة فإن الموضوع يحتاج غرفة عمليات يشارك فيها متخصصون فى هذه النوعية من الحروب العقائدية التى تحتاج معرفة مباشرة بالأدب الإرهابى الذائع، وبوسائل انتشاره وتمويله، والخريطة المفهومية والنفسية التى تقف وراءه، وطرائقه فى التجنيد والجذب. الحرب فى كل الأحوال جديدة علينا، ولكننا أكثر المؤهلين للتعامل معها، ليس فقط لأننا أكثر المعرضين لخطر الإرهاب، ولكن لأننا مسلمون ونعرف عن الحقيقة الإسلامية أكثر من أى شعب أو دولة أخري. المرحلة المقبلة من الحرب العالمية ضد الإرهاب سوف تكون صعبة رغم أن هزيمة «داعش» فى الرقة والموصل مؤكدة؛ ولكن الانتشار الشديد للدعاية الإرهابية، والاختلاط الكثيف مع موجات المهاجرين واللاجئين والنازحين من دول فاشلة كثيرة، وحالة الانكشاف المعروفة لأهداف ناعمة لا تعد ولا تحصر فى الحضارة المدنية المعاصرة؛ كل ذلك يجعل الاستعداد والتعبئة من الآن ضرورة ملحة. ما شهدناه خلال الفترة القصيرة الماضية، والسهولة التى تم بها قتل 49 إنسانا فى أورلاندو فلوريدا، و24 آخرين فى سان براندينو كاليفورنيا، بالولايات المتحدة، جعل من بقية العالم ساحة مفتوحة للعنف والقتل الإرهابي. لا أعتقد أن كل ما هو مذكور فى هذا المقال بعيد عن فطنة الأجهزة الأمنية المصرية، ولكن أيا ما كانت النتائج التى توصلت لها الأجهزة فإن هناك مسئوليات لابد أن يتحملها الرأى العام والذى بدون وعيه، واتساع أفقه، وتماسكه وتمسكه بالوحدة الوطنية لا يمكن مقاومة هذه النوعية من الشرور. هناك معلومات لابد من معرفتها، وهناك استعدادات لابد من اتخاذها. المؤكد أننا لا نريد ترهيب أحد، أو بث الذعر فى القلوب، وإنما هى قراءة لا بد منها لحال العالم حيث يوجد الكثير من الشر. لمزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد