قيل إنه «لا يفل الحديد إلا الحديد»، ويبدو أن الإرهاب سوف تكون نهايته على يد من يعرف كيف يرهب الإرهابيين، وكيف يجعلهم يشكون في معتقداتهم الإجرامية، ويقينهم غير المحدود بحتمية الانتصار. الظاهرة التي نحن بصددها - أي الإرهاب - ربما تكون فريدة في التاريخ البشري؛ صحيح أن العالم عرف بعضا منها في أشكال مختلفة للاغتيالات، أو تخريب مجتمعات مستقرة. ولكن العصور الحديثة غلب عليها نوعية الحروب «القومية» بين دول تنازعت على مصالح وموارد. فقط منذ سبعينات القرن الماضي عرفنا بروز الظاهرة في أشكال واسعة التنظيم، وذات طبيعة عالمية من حيث التجنيد والدعاية والعمليات. وما كان تاريخيا لا يزيد عن «خلايا» صغيرة تعمل على بث الرعب هنا وهناك، فإنها أصبحت الآن جيوشا كبيرة، وتستحوذ على أراض شاسعة، وتستخدم أشكالا متقدمة من التكنولوجيا، وسلاحها الرئيسي نشر ثقافة الموت، وإعلان الحرب على الحياة. هذا ليس مكان عرض التطور التاريخي للظاهرة الإرهابية، وإنما المطروح هو أن «الحرب العالمية على الإرهاب» سوف تحتاج إلى تعليم الإرهابيين كيف يكون الخوف والفزع والشك الدائم في إمكانية الوصول للهدف، مع فقدان للثقة في النفس والكفاءة القتالية للأفراد الذين يظنون أن وراءهم وأمامهم وخلفهم هالات مقدسة. ويجب أن نعترف أن الخبرة التاريخية للحروب بالنسبة لمعظم دول العالم، قامت في جانب منها على خبرات حروب تقليدية جرت في الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية، والحرب الكورية، والحروب العربية الإسرائيلية، وحروب الخليج التي جرت بين العراق وإيران، وحرب تحرير الكويت، والغزو الأميركي للعراق. هذه الخبرات في مجموعها طبعت طابعا، مع كثير من التطورات التكنولوجية، على جيوش دول العالم المشاركة الآن في الحرب ضد الإرهاب. الخبرة هنا قامت على تشكيلات قتالية ذات قوة نيرانية متصاعدة، وفي أحسن حالاتها، فإن قدرتها على المناورة والمفاجأة، تجعلها قادرة على تحقيق أهدافها في تدمير القدرة القتالية للخصم، وبالذات على جانب «المعدات» التي يستخدمها. تدمير المدفعية والمدرعات والطائرات تفقد العدو قدرته على الاستمرار وتجبره على القبول بما لم يقبل به من قبل. الحرب على الإرهاب لا يوجد بها هذا الجانب من المعدات، ولا يمكن اعتبار عربات الدفع الرباعي، أو المدافع الخفيفة المحملة عليها، أدوات عسكرية جادة. ولكن الجاد فيها هو الأفراد وقدرتهم السريعة على الاختفاء والظهور والالتفاف، مع إرادة حقيقية لبث الخوف والفزع في تجمعات سكانية، وأحيانا في تجمعات قتالية كما حدث خلال «غزوة» الموصل. الحرب ضد الإرهاب تنتمي إلى نوعية جديدة من الحروب تستهدف الأفراد والمقاتلين الذين هم من نوعية خاصة. هم ليسوا رجال حرب العصابات الذين عرفناهم إبان الحرب الفيتنامية، أو حرب تحرير الجزائر، فهؤلاء كان لديهم غطاء شعبي، ويتحركون بدوافع وطنية وقومية. الإرهابيون على العكس ليس لديهم تلك الصلة الخاصة مع «الشعب»، هم طائفة منتقاة جرى غسل عقلها بالفاشية الدينية بالطريقة التي تجعلها تفقد صلتها بالحياة. تجربة الولاياتالمتحدة مع الإرهاب جعلتها تمر بمرحلة محاربته بالوسائل التقليدية للتشكيلات القتالية في أفغانستانوالعراق، وجعلتها تبحث عن وسائل جديدة باتت الآن معروفة بتعبير «مواجهة الإرهاب أو Counter Terrorism». رأس الرمح العسكري في هذه الاستراتيجية هو القوات الخاصة ذات الكفاءة العالية، والمعدات بالغة الدقة والمتوفر فيها الإرادة لكي تدخل إلى حيث يوجد الإرهابيون، ثم تقوم بالتقاطهم وقتلهم. الأمر هنا يحتاج إلى شبكة من المعلومات الدقيقة، وإلى أدوات تحسم المبارزة الفردية في لحظات قليلة. المعركة هنا لا يوجد فيها مجال للأسرى، فالإرهابيون لا يعرفون هذا المفهوم، وكذلك فإن مقاتليهم يحصلون على نفس المميزات. ولكن ذلك هو رأس الرمح العسكري الذي طالما تسلل إلى الموصل والرقة، وفي بعض الأحيان إلى حيث يوجد إرهابيون في الصومال، ومؤخرا فإن عملية ليبيا التي قتلت قرابة الخمسين من الإرهابيين، كانت عقابا على العمليات الإرهابية في تونس، وعلى نوايا إقامة قاعدة بديلة في ليبيا حالة سقوط «الخلافة» بين سورياوالعراق. ويبدو أن فرنسا هي الأخرى أخذت حذو الولاياتالمتحدة، ومن ثم فإن الأنباء تواترت عن وجود قوات فرنسية خاصة على الأراضي الليبية، هدفها اقتناص وإرهاب جماعة «داعش» الليبية. الفارق هنا بين القوات الخاصة والإرهابيين أن الأولى تعمل ضمن إطار عسكري منظم يستحوذ على قوة نيران كبيرة، ويجعلها مناسبة مع نوعية الحرب الجديدة؛ بينما الثانية فإن السائد بينهم أن الاعتماد على قوة الاعتقاد فيه الكفاية. ومن ثم فإن عمليات القصف الجوي التي تقوم بها الدول المتحالفة ضد الإرهاب، والاستخدام المستمر للطائرات من دون طيار للمراقبة، وقصف أهداف جرى مراقبتها وتصويرها من قبل، هي جزء من عملية إذاعة الذعر في الجماعة الإرهابية، ووضعها تحت ضغوط مستمرة. وربما لم تكن إقامة «داعش» لدولتها شرا كلها، فهي بهذه الطريقة جمعت أعدادا كبيرة من الإرهابيين، حتى صاروا أهدافا مباشرة لعملية الاقتناص والتصفية. وأصبح وضع الجماعة والتنظيم، ومقاتليهما، تحت هذا الضغط، يجعل عمليات الاقتناص أكثر فعالية وسرعة، ولكن ذلك يحتاج لنوعيات خاصة من المقاتلين، جرى تدريبهم في ظل ظروف خاصة تكون صعبة وقاسية. الجيوش العربية ربما أخذت على غرة، عندما نقلت الجماعات الإرهابية عملياتها من باكستانوأفغانستانوالصومال إلى قلب العالم العربي، في خضم الثورات والاضطرابات التي جرت خلال الأعوام القليلة الماضية. وبشكل ما فإن الفكر العسكري العربي تأثر كثيرا بحزمة تجارب مقاومة الاستعمار، والمواجهات العربية - الإسرائيلية، وأحيانا صراعات محدودة بين الدول العربية ذاتها لفترات قصيرة. الإرهاب بدأ مرتبطا بعمليات كبيرة ولكنها غير منتظمة، ولا يوجد لها هدف سياسي واضح إلا الإزعاج والإشهار والابتزاز الذي يدفع في اتجاه نشر أفكار الفاشية الدينية. الآن فإن المسألة باتت ذات طبيعة جيوسياسية وجيواستراتيجية واضحة، لها علاقة بتنظيمات ودول لها أهداف توسعية. مثل هذه الحالة تتطلب بدورها إعادة هيكلة كبيرة للقوات المسلحة، بحيث يصير للقوات الخاصة مكانة أكبر بكثير مما هو عليه الحال الآن. وقبيل حرب أكتوبر (تشرين الأول)، واعتمادا على تجربة حرب يونيو (حزيران) 1967 المريرة، اكتشفت مصر الأهمية القصوى للدفاع الجوي، باعتباره الوسيلة لمواجهة الاختلال القائم في السلاح الجوي، ومن ثم تم إنشاء قيادة خاصة لهذه المهمة باتت جزءا مهما من أجزاء القوات المصرية. المطلوب الآن أن تكون هناك قيادة خاصة في كل الجيوش العربية المشاركة في الحرب ضد الإرهاب، تعتمد على جنود متطوعين محترفين مزودين بالوسائل التكنولوجية والمخابراتية اللازمة، لكي تقوم بمهمة إرهاب الإرهابيين حيث يتواجدون ويعلنون عن نواياهم البربرية. ومن الجائز جدا أن تشكل هذه القوات في كل بلد عربي نواة ما عرف «بالقوة العربية المشتركة»، ولكن ما نحن مقبلون عليه خلال هذا العام في سوريا وليبيا، سوف يخط إلى حد كبير مستقبلنا جميعا. نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط