بمرور عام تقريبا على تشكيل التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة مع قوى شرق أوسطية رئيسية (الذى ضم أكثر من 60 دولة) ضد داعش، يمكن القول، إجمالا، أن جهود التحالف ضد داعش غير مكتملة إلى حد كبير. بل إن العالم اليوم يجد نفسه أمام عدة حقائق على الأرض، بعيدا عن صراع الدعاية وأشباه الحقائق وأنصافها، التي يتم ترويجها عبر وسائل الإعلام ومراكز البحث والتفكير وشبكات المصالح. فقد عمل (أو هكذا يفترض) التحالف على مسارات عدة رئيسية: تقديم الدعم العسكرى للشركاء المحليين لمقاتلة تنظيم داعش، وكبح تدفق المقاتلين الأجانب إلى الساحتين العراقية والسورية، ووقف تمويل ودعم داعش، والكشف عن الطبيعة الحقيقية لداعش، من خلال المراكز الدعائية التى أُنشئت خصيصا على الشبكة الدولية، لمواجهة دعاية داعش على منصات التواصل الاجتماعى. نتائج مختلطة فى العراق فقدت داعش بشكل مطرد سلسلة من المعارك، و كانت فى وضع دفاعى فى العراق لأكثر من ثمانية أشهر. ففى الشمال العراقى الكردى (فى معظمه) واجهت قوات داعش الهزيمة فى طريقها إلى أربيل، عند سد الموصل وفى سنجار. وفى داخل البلاد وحول العاصمة بغداد، هُزِمَت قوات داعش عند سد الحديثة، خارج قاعدة عين الأسد، فى تكريت، وديالي، وجرف الصخر، وغيرها من المواقع. لكن بالمقابل من كل ذلك، فإن نجاح التنظيم فى التقدم نحو الرمادى واستيلائه عليها (بالتزامن مع سيطرته على مدينة تدمر فى سوريا) بعد 32 يوما فقط من خسارته لتكريت، يؤكد قدرته على المناورة، وعلى الثبات وفق صيغة خطوتين للأمام وخطوة للخلف. من ناحية أخرى، ولما كان الجيش العراقى نفسه قوة واهنة غير قادرة على قيادة عمليات ضد داعش، فقد بزغت قوات الحشد الشعبى بوصفها قوة فعالة على الأرض، حيث قادت (بدعم إيراني) الاستيلاء على تكريت فى منتصف إبريل 2015. وفى السياق ذاته، اضطر رئيس الوزراء العراقى حيدر العبادى لاستدعائها مرة أخرى بعد سقوط الرمادى فى 17 مايو 2015. وهنا تتبدى حقيقة أن الديناميكيات السياسية داخل العراق ذات أثر مدمر على جهود محاربة داعش. ذلك أن الدور البارز لقوة شيعية – يشمل هيكلها القيادى قيادات موصومة من قبل الحكومة الأمريكية بأنهم إرهابيون دوليون- فى مكافحتها لتنظيم سنى متطرف فى أراض سنية، من غير المرجح أن يعالج الانقسامات الاجتماعية القائمة بالفعل أو يهزم الديناميكيات الطائفية التى شجعتها داعش وغذتها فى العراق لسنوات عديدة. وعليه فإن الانتصارات التكتيكية قصيرة المدى لوحدات الحشد الشعبي، ربما تتوارى خلف الدمار بعيد المدى الذى سببته لسمعة الحكومة المركزية فى قلب معاقل السنة فى العراق. مطلب تغيير المسار فى سوريا داعش هى التحدى الإرهابى المتصدر للمشهد، ولكنه ليس الوحيد فى سوريا. لقد تم ملء الفراغ فى كثير من أجزاء سوريا ليس فقط بداعش بل أيضا بجبهة النصرة، وفرع القاعدة، أو تنظيمات إرهابية أخرى عديدة أصغر منهما. صحيح أن الضربات الجوية ألحقت بعض الخسائر، بهذه الحركات وربما منعت هجمات إرهابية دولية، ولكنها لم تُضعِف جوهريا هذه الحركات. بعبارة أخرى، فى سوريا، يظل هيكل الصراع الإجمالى مشتظيا وعلى نحو متزايد، وتظل كذلك الفجوة واسعة بين الأهداف المعلنة للسياسة الأمريكية، والتكتيكات الرئيسية الموظفة لتحقيق تلك الأهداف، ومن بينها دعم معارضة تتبع طريقا ثالثا يجمع بين مجابهة داعش ونظام الأسد معا. وكل هذا يؤكد الحاجة إلى رسم مسار جديد فى سوريا للمساعدة فى تخفيض حدة الصراع، والعودة مرة أخرى إلى فكرة التسوية التفاوضية. لقد واجهت داعش تحالفا يستهدفها من الجو عبر ضرب أهداف متاحة، لكن بمعزل عن ديناميكيات المعركة على الأرض. الاستثناء من هذا التقدير الأخير تمثل فى التنسيق للضربات مع مقاتلين أكراد يقاتلون داعش شمالى سوريا، بداية من كوبانى (أو عين العرب) أواخر 2014 واستمر فى مواقع أخرى فى الشمال الشرقى أوائل 2015. وفى الوقت الذى جذبت فيه كوبانى انتباه العالم ودفعت داعش إلى استهلاك المئات من مقاتليها، فإن البلدة فى الحقيقة ذات قيمة استراتيجية قليلة لداعش. وفى كل الأحوال فقد قضى تدميرها شبه الكامل وإجلاء سكانها بحلول مارس 2015، على أى شعور بالنصر للأكراد أو التحالف ضد داعش. صحيح أن وحدات حماية الشعب الكردية ظلت فعالة باستمرار، ونجحت فى إعادة استيلاء قواتها – كثيرا بالتنسيق مع الضربات الجوية للتحالف – على 256 قرية وبلدة شمال شرق سوريا. لكن مع ذلك، يظل من غير الواضح كيف يمكن لتلك القوات أن توسع نطاق عملياتها العسكرية خارج قلب معاقل الأكراد، عندما تتحرك بشكل أكبر نحو الداخل السوري. خاصة بعد أن اتهمت المعارضة السنية الأوسع، قوات الحماية الشعبية بالتطهير العرقى منتصف يونيو الماضى. والأهم من كل ذلك أن الأراضى ذات الأهمية الاستراتيجية بالنسبة لداعش (الواقعة شرقى حلب، الرقة، وعبر محافظة دير الزور) والتى تضمن بقاء التنظيم على المدى البعيد، لم تمس!! وظلت آمنة بعيدا عن ضربات التحالف اليومية. بين التكتيكى والاستراتيجى وبناء على ما سبق، يتضح أن داعش لم تعان حتى الآن من خسائر استراتيجية فى الأراضى أو الأصول. وأن الخسائر المفروضة عليها فى مناطق شمالى العراق، فى ديالى وصلاح الدين، حول بغداد، وشمال شرق سوريا، ليست أكثر من مكاسب تكتيكية للتحالف، وليست هزائم إستراتيجية لداعش. التوظيف الاستراتيجى لتواجد داعش أماط التدخل الروسى الكثيف فى ميادين الحرب فى سوريا وعليها، القناع عن «حرب أجندات» حقيقية، ودائماً بذريعة الحرب على الإرهاب وتحت ظلالها. فالانتقادات التى وجهتها الأطراف الدولية والإقليمية المعادية لنظام الأسد، لاستهداف الطيران الروسى مواقع «جيش الفتح» فى إدلب وريف حماة وشمال اللاذقية، كشفت عن جانب واحدٍ من الصورة: هذه الأطراف، وتحت ستار الحرب على داعش، تدعم «قوى جهادية» أخرى، بعضها يتبع القاعدة رسمياً: النصرة، وبعضها الآخر، لا تفصله عنها سوى فوارق تكتيكية ضئيلة: أحرار الشام، حيث يشكل الفصيلان، العمود الفقرى لما يسمى ب «جيش الفتح»، والذى تفضل أوساط المعارضة على إسباغ صفة الاعتدال عليه، بل وتنسبه إلى «الجيش السورى الحر»، مع أن الجميع يعرف، أن هذا «الجيش» بات أثراً بعد عين، ولم يعد يتحكم سوى ببؤر معزولة من المناطق السورية، وأن بقاءه بات مشروطاً بموافقة « جبهة النصرة» و«وأحرار الشام». هنا يمكن القول: تحت ستار الحرب على « داعش» والإرهاب، يحاول هذا «المحور» صرف الأنظار عمّا يجرى فى شمال غرب سوريا، ويقوم طيران التحالف منذ عام أو يزيد، بتوجيه ضربات غير مركزة وغير مؤثرة، على أهداف ل «داعش» فى شمال شرق سوريا، فيما المعركة الحقيقة تجرى فى مكان آخر، وهدفها الاقتراب من «معاقل» النظام، ومن حصنه الساحلى المنيع، وفيما الحسابات الدفينة، تستهدف إسقاط اللاذقية، حيث الكثافة السنيّة، لتأمين موطئ قدم لهذه القوى ورعاتها الإقليميين والدوليين، على شاطئ المتوسط. فى المقابل، يبدو واضحا أيضا، أن «نقطة التحول» التى جاءت بروسيا إلى سوريا بكل ثقلها، إنما بدأت من إدلب وجسر الشغور وسهل الغاب، فبعد سقوط هذه المناطق فى يد النصرة، وتحت مسمى جيش الفتح، وبدعم مباشر، وتسهيلات لوجستية وعسكرية تركية وخليجية، قررت موسكو أن تتدخل بقوة لحماية «سوريا المفيدة»، وتأمين قاعدتها البحرية الوحيدة فى المياه الدافئة، وحماية الحليف الأبرز لها فى المنطقة: النظام السوري. وبالنظر إلى أن روسيا لم يكن فى إمكانها أن تدخل الحرب فى سوريا تحت هذه الشعارات «الفاقعة» فقد جرى – كذلك- الاستظلال بالحرب على» داعش». صراع معسكرين إذن، المنطقة أمام معسكرين متصارعين، يجمعهما شعار الحرب على الإرهاب وتفرقهما المصالح المتضاربة والأجندات المتناقضة... وإن استمر الحال على هذا المنوال، فالمرجح للحرب على الإرهاب أن تستمر طويلاً، بل وطويلاً جداً ّ!! وهنا يتعين لفت الانتباه إلى ضرورة عدم المسارعة فى الرهان على التدخل الروسي، المباشر، أو المبالغة فى القيمة الاستراتيجية له. صحيح أنه سيمنح النظام السورى قوة دفع للصمود، لكنه لن يحسم المعركة أو ينهى المعادلة الحالية. بوتين يعرف الحقيقة، لهذا قال مع بدء العمليات، إنها لن تستمر أكثر من أربعة أشهر. ومن ثم يمكننا أن نستنتج، أنه وبعد انتهاء المهلة الروسية، سنكون أمام ميزان قوى جديد على الأرض، يميل فى الغالب لصالح النظام فى مناطق يتنازع السيطرة عليها مع المجموعات المسلحة. لكن هذا ليس وضعا دائما، وسيتغير بعد أقل من أربعة أشهر أخرى. فالدول الداعمة لجماعات المعارضة، لن تسلم بسهولة، وستنهال الأسلحة على «جيش الفتح»، وتقدم التسهيلات لتنظيم «داعش» ربما، لندخل فى موجة جديدة من القتال، ترسم فيها خطوط جديدة للسيطرة والنفوذ. إذن، التدخل الروسى ليس أكثر من مجرد فاصل عسكري، ونعود بعده للعبة المميتة. وسوريا – باختصار - جرح نازف إلى أجل مفتوح، وفى خضم ذلك سيتمدد الإرهاب مستغلا حالة الفوضى والزحام على الأرض وفى السماء.