تعرف المجتمعات الديمقراطية وتتعايش مع ظاهرة جماعات الضغط مختلفة المشارب والتوجهات، التى تسعى لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية من دون سعى إلى حيازة السلطة، وذلك على العكس من الأحزاب التى تسعى إلى حيازة السلطة وتشكيل الحكومة ولكن من دون استهداف مصالح اقتصادية، يعد السعى إلى تحقيقها بمثابة خطيئة أخلاقية وسياسية. فى تلك المجتمعات تكون الأحزاب، سواء كانت فى موقع الحكم أو المعارضة، بمثابة القناة الأساسية للعمل السياسي، التى تمر عبرها مياه التفاعلات والمساومات والتحالفات والمفاوضات، وتتفاعل من خلالها شتى الإرادات السياسية والتيارات الفكرية، وصولا للتوافقات العامة حول القضايا الوطنية حاضرا ومستقبلا. فى مصر يبدو الوضع معكوسا، إذ نجد جماعات الضغط أكثر قوة من الأحزاب القائمة، وأكثر تأثيرا على مجريات السياسة، وعلى التحكم بدولاب الدولة وكأنها حكومة ظل، عبر أطر خلفية يصعب ضبطها ومن ثم مساءلتها قانونيا، وهو واقع مر يحول دون تشكيل نظام سياسى بالمعنى الحديث، يقوم على التوزيع العادل للقوة السياسية بين السلطات الثلاث، وعلى شبكة من آليات الرقابة والتوازن فيما بينها، بينما يقصر إدارة الدولة على بؤرة صلبة تتشكل من ذوى المناصب العليا، تحيط بها نويات متفرقة أشبه بجزر منعزلة لا تتفاعل، بل إنها غالبا ما تتصادم، على نحو يحول دون تبلور تيار رئيسى يقود حركة المجتمع، ويؤمن التوافقات الضرورية لسلامة الدولة وفعالية نظام الحكم. يتجذر ذلك الواقع المر فى الحقبتين الأخيرتين من جمهورية يوليو، فعلى عكس الحقبة الناصرية التى غابت فيها الأحزاب وجماعات الضغط معا، وسادت سلطوية صارمة، اتسم عهد مبارك بالذات بالهشاشة المتنامية للأحزاب السياسية الموروثة من عصر السادات، فى مقابل الحضور المتصاعد لجماعات الضغط، خصوصا الاقتصادية، وهو أمر تعمق أعقاب ثورة 25 يناير كعرض جانبى لها، ولكنه لا يزال ينمو على قاعدتها. ففى مقابل انعدام فعالية الأحزاب الكثيرة عدديا والضعيفة بنيويا، ثمة فعالية قصوى لجماعات ضغط مالية واعلامية، تدور جميعها فى فلك رجال أعمال لم يحسموا موقفهم بشكل نهائى من نظام الحكم الذى لم يحسم بدوره طبيعة مشروعه الاجتماعى بعد، وما إذا كان انحيازه للطبقات الدنيا كما يصر فى خطابه العلني، أم للطبقة المتحكمة بمفاصل الاقتصاد منذ العقدين على الأقل كأمر واقع مستمر حتى الآن. تثير هيمنة جماعات الضغط هنا مشكلتين أساسيتين: أولاهما أنها غير قادرة على صنع حس اتجاه مجتمعى أو بلورة تيار رئيسى فى السياسة كما فى الاقتصاد، أو حتى صياغة سياسة متماسكة، لأن هذا ليس من طبيعتها، ولأنه يناقض مصالحها، ولأنها هى نفسها تنطوى على جبهات متصارعة ومتنافسة على مراكز الفعل فى داخل وحول أجهزة الدولة ومؤسساتها. وثانيتهما كونها قادرة على تعطيل التوجهات العامة الأخرى التى قد تبلورها أى جهات أخري، خصوصا تلك الحكومات الهشة التى توالت على مصر فى الأعوام الخمسة الأخيرة. ففى مقابل حكومات تكنوقراطية، يجرى تشكيلها بحكم الولاء المضمون دون الكفاءة المطلوبة، ناهيك عن التشرذم الطبيعى لميول أعضائها القادمين من خلفيات متعددة وأحيانا متناقضة، ثمة رجال مال كبار، يمتلكون قنوات فضائية واسعة الانتشار وصحف سيارة بالغة التأثير يمكن من خلالها توجيه الرأى العام وإثارة البلبلة ضد ما يقوم به أى وزير أو مسئول خارج السياق السائد، على ذلك النحو الذى تبدى جليا فى أزمة الدولار الذى زاد سعره وقل عرضه فى الشهور الماضية، حيث أعلن اتحاد الغرف التجارية مثلا، كتعبير عن مصالح الوكلاء التجاريين لجل الشركات العالمية، رفض الاجراءات التى قام بها رئيس البنك المركزى ووزير المالية من تحديد لقوائم السلع التى يمكن الاستغناء عن استيرادها ومن ثم عدم توفير الدولار لها، أو رفع الجمارك عليها. ورغم أن الاجراءات تم إقرارها فى النهاية، فإنها لم تكن قعالة فى علاج الأزمة، لأن قوة جماعات الضغط هذه تصرفت ضدها عمليا. الأمر نفسه هو ما حدث فى أزمة الدولة مع نقابة الأطباء، والتى نشبت بفعل اعتداء أمناء شرطة على طبيبين بمستشفى المطرية. وبدلا من أن تستمع الدولة إليهم وتلبى مطالبهم العادلة، ناهيك عن عقاب الأمناء المخطئين، إذا بحملة إعلامية واسعة معادية لهم، تتحدث عن الاهمال فى المستشفيات العامة، والجامعية بهدف رمى الكرة فى ملعب الأطباء، وتحويلهم إلى معتدين، بينما كانت بعض مراكز القوى الاجتماعية تضغط على الدولة لخصخصة المستشفيات الجامعية تحت عناوين مضللة، وتقف حائلا دون الحوار بين الدولة وبين فئة اجتماعية مهمة لعلها الأكثر تعبيرا عن الطبقة الوسطى بشرائحها الثلاثة. وهكذا يفسر الضعف المتزايد للنظام الحزبي، فى مقابل القوة المتنامية لجماعة الضغط، حالة الميوعة المهيمنة على بعض سياسات الدولة، والغموض المسيطر على فلسفتها الاجتماعية، والفجوة المتزايدة بين الخطاب السياسى والممارسة العملية، والجنوح التدريجى نحو تحميل أعباء الاصلاح الاقتصادى وعجز الموازنة على كاهل الطبقتين الوسطى والدنيا وليس على الأثرياء. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم