كان ممكنا، وربما مطلوبا، تحت ضغط الحداثة، أن ينزاح الدين من المجال العام السياسى إلى الفضاء الاجتماعي، أو حتى إلى المجال الخاص الفردي، متنازلا عن طموحه إلى تنظيم المجتمعات وبناء المؤسسات، والوصاية على العلوم والمكتشفات، ليقتصر دوره على الإلهام الروحى والضبط الأخلاقي. وفى المقابل لم يكن محتما ولا حتى مطلوبا أن يفقد الدين كل قيمته أو يُعلن عن موته أمام حركة العقلانية الحديثة، وسيفها البتار. بل إن تلك العقلانية نفسها هى التى منحت الدين سيفا جديدا يحارب به منطقها المادى المتصاعد، كونه المصدر الأكثر أساسية لليقين الروحي، فى مواجهة ذلك الشك المتنامى التى نبتت بذرته فى تربة العالم الحديث. وهنا تكمن العلاقة الإشكالية بين التقدم المادى والتقدم الروحي، وبالأحرى بين نمط الحياة والأخلاق: فثمة تيار يرى أن الأخلاق لا تتأثر بالتقدم المادى وتغير البيئة الحضارية، أى أنها لا تتقدم ولا تتأخر، استنادا إلى فهم يقول بأن الطبيعة الإنسانية ثابتة جوهريا. تلك الرؤية محافظة إلى حد كبير، فالإنسان يتأثر فى طبيعته وميوله بما حوله، وتتراكم تلك التأثيرات عبر الأجيال. ليس مهما هنا أن تحدث طفرات جينية تقنن تلك الميول الجديدة بيولوجيا، كما تشى الداروينية، إذ يكفى تمركز تلك الميول فى نظام كامل من التربية والتعليم والتثقيف، يتمتع بدرجة من الانتشار العالمي، يمكن معها الترويج لهذه الميول على نطاق واسع، وتكريسها فى أجيال متتالية، لخلق نمط حياة / طابع إنساني. وثمة تيار آخر يرى أن الأخلاق الإنسانية تتخلف بفعل التقدم العلمى والتكنولوجى المتنامي، بدليل تلك الحروب الكبرى التى فتكت ولا تزال بأرواح الملايين من البشر؛ نتيجة التطور الهائل فى صناعة السلاح, ناهيك عن العنف السياسى المتزايد الذى يحصد أرواح الكثيرين منهم، والمظالم الاقتصادية التى تنمو بفعل تفاوت التقدم التكنولوجى بين الطبقات والمجتمعات، والتى ترهق أعصاب الناس وتفتك بأحلامهم. تلك الرؤية تبدو رجعية إلى حد بعيد، ففى مقابل من أُزهقت أرواحهم بفعل تكنولوجيا السلاح، ثمة من أنقذت حياتهم بفعل تكنولوجيا العلاج، حيث جرى مرارا اكتشاف مستحضرات طبية لأمراض مستعصية، وثمة تيار ثالث يرى أن الأخلاق الإنسانية تتقدم نحو الأفضل، مستدلا على ذلك بنمو المثل الإنسانية الجديدة «العقلانية والتحررية»، واستقرار منظومات الحقوق الفردية التى أعلت من وضع الإنسان بصفته مجرد إنسان. غير أن ذلك الفهم يقوم على خلط واضح بين نمط الحياة، ومفهوم الأخلاق، حيث إن تغير الأول لا يعنى تغير الثانية؛ فأنماط الحياة البشرية تتغير دوما باتجاه أكثر تعقيدا وتركيبا، حيث يصير الإنسان، عموما، أكثر معرفة وتدريبا فى كل حقبة قياسا بما سبقها، وربما حاز مستويات عيش، وأشكال حياة تفوق آبائه وأجداده. غير أن ثمة فارقا كبيرا بين تقدم نمط الحياة، وبين الأخلاق الإنسانية المضمنة فى سلوكيات كالتعاطف مع الضعفاء والمعوزين، والبر بالصغار جدا أو الكبار جدا، والتفاعلات الاجتماعية الحميمة، والتواصل الإنسانى الدافيء وغيرها من سلوكيات طالما كشف الإنسان عن حاجته إليها، وأكدت الأديان محوريتها للإجتماع البشري. وهكذا فإن تطور البنية الحضارية «كأنماط عيش» لا يضمن تطور الأخلاق الإنسانية «كقيم عيش»، ولا بلوغ السعادة ك «غايات للعيش، إذ يدفع التنظيم العقلانى الصارم، والنزعة الفردية المطلقة، والإستخدام البراجماتى للوقت، وجميعها مضمنة فى بنية التقدم المادي، إلى نوع من الأنانية والتمركز حول الذات، وربما الاغتراب، ولذا كانت أعلى نسب الانتحار فى أكثر الدول تقدماً، والشيء نفسه ينطبق على الإباحية والمخدرات. تلك الفجوة بين أنماط الحياة، وبين قيم الحياة هى منبع معاناة الإنسان الحديث، الذى غادره الإيمان الروحى البسيط، وسكنه شعور قاتل بالعبثية ترسخ بفعل النزعة النسبية والقيم المادية التى أحاطت به مثل أخطبوط هيمن على فريسته؛ فعندما يشاهد الناس تغير عالمهم بسرعة، تختلط عليهم الاتجاهات، وتزوغ الأبصار، ويشعرون بنوع من التيه والضياع، فى عالم صلد يفتقد للتلاحم والتعاطف. ولعل ذلك الشعور يفسر، ولو جزئيا، جاذبية تنظيم داعش، أبرز نماذج الإرهاب المعولم، لكثير من الشباب فى المجتمعات الأوروبية، ليس فقط الذين ينحدرون من أصول عربية / إفريقية / آسيوية «مهاجرين»، بل وأيضا أولئك الذين تتجذر أصولهم فى تلك المجتمعات؛ ممن ضعفت قدرتهم على التكيف مع منطقها، فوقعوا أسرى لأزمة معنى جعلت حياتهم بلا مغزي، ودفعتهم للبحث عن خلاص مأساوى منها. وهكذا يتبين لنا عمق المشكل الذى تمثله الروحانية الدينية لنا، فمن غير الممكن الحياة من دونها، ومن المستحيل، الحياة بها وحدها. ففى الحالة الأولى تواجهنا نزعات مادية، تفقر الشخصية الإنسانية، وتصيبها بأفات كالعبث والعدمية. وفى الحالة الثانية، نواجه عالما يزداد تخلفا، يتحكم به بالجمود، وترافقه نزعات دوجماطيقية، تدعى احتكار الحقيقة، تقصى كل مختلف، وتوغل فى التطرف والعنف حتى تحيل العالم إلى جهنم أرضية. وهكذا تتبدى عمق الحاجة الإنسانية إلى روحانية معتدلة، تربط بين عالم الشهادة وعالم الغيب، تمكن الشخصية الإنسانية من مواجهة ضعفها أمام حاجاتها الضاغطة، وتزيد من قوة الضمير بالقدر الذى يضيفه التقدم المادى إلى قوة العضلات، فمن دون تلك الروحانية المعتدلة، سوف يستمر الإنسان فى أكثر المهام عبثية، وهى التهام نفسه، والتغذى على أنبل موروثاته، على نحو ما نرى فى كل مكان حولنا. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم