أن تعرف الأسباب الاجتماعية لأى حدث تاريخى، يوفّر لك نقطة بدء أفضل لفهم تطور مسار هذا الحدث! 25 يناير، الثورة الشعبية أو الانتفاضة، هى نتيجة فراغ فى شرعية الحكم. خلل فى المعادلة التى حقّقت استقرارًا نسبيًّا خلال 30 سنة من حكم مبارك، وقبلها 30 سنة من حكمَى عبد الناصر والسادات. لماذا حدث هذا الخلل وكيف فرغ رصيد الشرعية؟ يأتى على رأس قائمة الأسباب المحتملة، سرعة وطبيعة النمو الاقتصادى الذى تحقّق فى السنوات الأخيرة فى عهد مبارك فى ما يعرف بحقبة جمال مبارك. أنتج هذا النمو السريع، من ضمن ما أنتج، طبقة وسطى جديدة، تعمل فى القطاع الخاص المحلى والأجنبى، لا تعتمد على الدولة إلا فى أقل القليل على عكس الطبقة الوسطى القديمة التى خلقتها دولة عبد الناصر فى الستينيات. بحكم العصر وطبيعته تكوّن لدى هذه الجماعة مفهوم مختلف للشرعية، قوامه الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والرخاء الاقتصادى. ارتفعت توقعاتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لمستوى عجز النظام عن ملاحقته. سجل هنا إذن السبب الأول: على عكس نظام عبد الناصر الذى خلق طبقة وسطى «بيروقراطية» مؤيدة له وداعمة لسياساته، فقد نظام مبارك ظهيره الشعبى الجديد بدلًا من أن يكون مؤيدًا له. تحوّل شباب الطبقة الوسطى من المعارضة الصامتة إلى الفعل السياسى الميدانى عندما ظهر بديل سياسى مقنع لهم أخبرهم بأنهم «معًا سيغيّرون». هذا هو المعسكر الثورى-الإصلاحى، يتفق فى الهدف «دولة جديدة» ويختلف حول وسيلة تحقيقه «ثورى جذرى يطلب القطيعة الرومانسية التامة مع الماضى أو إصلاحى واقعى يقبل بنوع من التعايش مع بعض مكونات الماضى». لم تكن هذه هى النتيجة الوحيدة للنمو الاقتصادى السريع فى السنوات الأخيرة. التأثير الثانى الهام وقع على الطبقة الوسطى التقليدية. كانت هذه الطبقة هى الظهير الشعبى الحقيقى لأنظمة الحكم منذ ناصر وحتى مبارك. تتجسّد أساسًا فى الملايين من موظفى الحكومة «وهم فى الأغلب آباء شباب الطبقة الوسطى الجديدة، وهنا تستطيع أن تتذكر الصراع الجيلى الذى حدث فى الثمانية عشر يومًا بين الشباب و«حزب الكنبة». كانت هذه الجماعة هى مَن خاطبها صفوت الشريف فى خطابه الشهير يوم 27 يناير، لتذكيرها بما تقدّمه الدولة لهم من دعم فى الزيت والسكر والوقود. مفهومهم للشرعية هو المفهوم التقليدى السائد منذ أسس عبد الناصر دولة يوليو: الدولة تتكفّل بمصالحى الاقتصادية والأمنية، أو الحد الأدنى منها، مقابل أن أدين لها بالولاء والطاعة والبعد عن السياسة. لم تنتقل هذه الفئة إلى الفعل السياسى الميدانى خلال الثمانية عشر يومًا، ولكنهم صمتوا عن تأييد النظام الذين شعروا أنه يسير بعيدًا عن تعاقدهم معه ويتخلّى عنهم كلية. سجل إذن السبب الثانى: فقد نظام مبارك تأييد الطبقة الوسطى البيروقراطية فى الوقت الذى لم يكسب فيه تأييد الجديدة. وهذا هو إذن المعسكر الدولتى المحافظ: يتفق فى الهدف «نموذج دولة يوليو المسيطرة الراعية»، ويختلف فى الوسيلة «الجيش أو الإخوان، أيهما أقوى وأقدر!». وهكذا، أصبح النظام اليوليوى عاريًا أمام الخصم التاريخى لدولة الحداثة فى مصر: التيار الإسلامى. يمتلك التيار الإسلامى مفهومًا خاصًّا به للشرعية، يتناقض مع أساس المفهومين السابقين من حيث إنكاره لهوية الدولة المصرية الحديثة، واعتماده لنسخة ثيوقراطية محسّنة من العصور الوسطى. الحكم يكون بشرع الله كما حدّده فقهاء التيار. الدولة الحديثة كيان مصطنع لا شرعية له. الشرعية فقط للأمة الإسلامية ذات التعبير السياسى المتمثل فى دولة الخلافة. التحديث يكون اقتصاديًّا فقط وليس سياسيًّا أو ثقافيًّا وهدفه الأسمى مراكمة أسباب القوة المادية والأيديولوجية لمواجهة الغرب «الصهيوصليبى» يومًا ما. حقوق الإنسان تقتصر على الذكر المسلم السنى ولا تشمل غيره إلا بحساب. شيّد التيار الإسلامى قاعدة قوته الاجتماعية من خلال سد الفجوات التى خلقها انسحاب الدولة من المجتمع بعد نفاد قدراتها المالية والأيديولوجية. اعتمد فى الأساس على حشد أيديولوجى ورعوى من الطبقات الوسطى الدنيا والريفية «قارن اختلاف أنماط التصويت لصالح الإسلاميين بين المدن والريف». هذا هو إذن المعسكر الإسلامى: يتّفق فى الهدف «الدولة الشمولية الدينية»، ويختلف فى الوسيلة «إخوانى مراوغ أو سلفى مباشر». إذن، ما المشكلة؟ المشكلة ببساطة أن يناير لم تقدم، لأنها لا تملك، مفهومًا موحّدًا متوافقًا عليه للشرعية. هى تعبير عن شرعيات متناقضة وتجسيد لصراعهم البينى أكثر مما هى تعبير عن صراعهم سويًّا ضد نظام حكم. تغيَّرت بنية المجتمع المصرى كثيرًا خلال عقود التحرير الاقتصادى الثلاثة، وبشكل غير مسبوق خلال حقبة جمال مبارك. أصبح لدينا ثلاثة مجتمعات لكل منها مفهومه الخاص للشرعية «ناهيك بمجتمعات أصغر ذات تصورات مستقلة أيضًا للشرعية». وأصبح على نظام الحكم «الجديد» أن يجد صيغة مختلفة لتأسيس عقد اجتماعى شامل، هذا إن أراد استقرارًا ولم يرد مزيدًا من التمزّق والفوضى. هل يرغب فى ذلك ويملك القدرة على تنفيذه؟ لهذا حديث آخر