محافظ القليوبية يقدم التهاني للأقباط بمناسبة عيد القيامة المجيد    الذهب يستقر في الصاغة رغم احتفالات عيد القيامة    الآن.. طريقة الاستعلام عن معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    وزير الدفاع الإسرائيلي: هجوم رفح سيجري «في أقرب وقت ممكن»    انتشال أشلاء شهداء من تحت أنقاض منزل دمّره الاحتلال في دير الغصون بطولكرم    أخبار الأهلي : الأهلي يهدد بالإنسحاب من صفقة العسقلاني    الأهلي يبحث عن فوز غائب ضد الهلال في الدوري السعودي    هيئة الأرصاد تعلن تفاصيل الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة غداً الاثنين    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    بعد 45 عاما.. سليم سحاب يكشف حقيقة اتهام محمد عبد الوهاب بسرقة الألحان من الخارج    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    البطريرك كيريل يهنئ «بوتين» بمناسبة عيد الفصح الأرثوذكسي    البابا تواضروس الثاني يتلقى تهنئة آباء وأبناء الكنيسة بعيد القيامة    «مراتي قفشتني».. كريم فهمى يعترف بخيانته لزوجته ورأيه في المساكنة (فيديو)    هل يجوز أداء الحج عن الشخص المريض؟.. دار الإفتاء تجيب    «الزراعة» تواصل فحص عينات بطاطس التصدير خلال إجازة عيد العمال وشم النسيم    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    قبل ساعات من انطلاقها.. ضوابط امتحانات الترم الثاني لصفوف النقل 2024    كردون أمني بعد مقتل شخص على يد ابن عمه لخلافات على قطعة أرض في أسيوط    إصابة 3 إسرائيليين بقصف على موقع عسكري بغلاف غزة    قوات روسية تسيطر على بلدة أوتشيريتينو شرقي أوكرانيا    الحكومة الإسرائيلية تقرر وقف عمل شبكة قنوات الجزيرة    رئيس مدينة مرسى مطروح يعلن جاهزية المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين لاستقبال طلبات التصالح    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    اعرف حظك وتوقعات الأبراج الاثنين 6-5-2024، أبراج الحوت والدلو والجدي    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة بطوخ    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    التنمية المحلية: استرداد 707 آلاف متر مربع ضمن موجة إزالة التعديات بالمحافظات    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    في إجازة شم النسيم.. مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة بالغربية    رفع حالة الطوارئ بمستشفيات بنها الجامعية لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 3 مج.ازر في غزة راح ضحيتها 29 شهيدا    بالصور.. صقر والدح يقدمان التهنئة لأقباط السويس    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    أنغام تُحيي حفلاً غنائيًا في دبي اليوم الأحد    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    جناح مصر بمعرض أبو ظبي يناقش مصير الصحافة في ظل تحديات العالم الرقمي    الليلة.. أمسية " زيارة إلى قاهرة نجيب محفوظ.. بين الروائي والتسجيلي" بمركز الإبداع    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    دعاء تثبيت الحمل وحفظ الجنين .. لكل حامل ردديه يجبر الله بخاطرك    اتحاد الكرة يلجأ لفيفا لحسم أزمة الشيبي والشحات .. اعرف التفاصيل    بين القبيلة والدولة الوطنية    لتجنب التسمم.. نصائح مهمة عند تناول الرنجة والفسيخ    صحة مطروح تطلق قافلة طبية مجانية بمنطقة أولاد مرعي والنصر لمدة يومين    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة في طوخ    نهاية موسم مدافع بايرن    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    السيطرة على حريق شقة سكنية في منطقة أوسيم    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمهورية يوليو وعصورها
نشر في الأهرام اليومي يوم 31 - 03 - 2011

كانت ثورة يوليو حدثا كبيرا وضع مصر من جديد في قلب التاريخ‏,‏ ومكنها من قيادة حركة التحرر في العالم الثالث‏,غير أنه وقف عاجزا أمام أحد مبادئه المؤسسة وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة. . ولذا استمر سوس الاستبداد ينخر في روح مصر طيلة جمهورية يوليو الأولي حتي وصل الأمر إلي تعاضد الفرعونية السياسية مع المملوكية المجتمعية والاقتصادية. فبعد حكم دام العقدين من الاستبداد الناصري العادل والفعال, أتي الاستبداد الساداتي خاليا من العدل وإن اتسم بالفعالية, ثم كانت الحقبة المباركية أقرب إلي مفارقة تاريخية جمعت بين الفرعون, المفترض قوته وهيمنته, وبين جوقة من المماليك, فرغوا فرعونيته من جوهرها, فجعلوها رخوة في مواجهة الخارج, وصلدة في مواجهة الداخل. وهكذا جمع عصر مبارك سوءات العصور جميعا فكانت الكارثة, ثم كان المخاض الجديد مع ثورة25 يناير حيث الآمال الكبيرة في تأسيس جمهورية جديدة أكثر عدلا وحرية. ولأن جودة الجديد تتوقف علي فهمنا العميق لسلبيات القديم, تتوقف' فكر' اليوم عن العهود الثلاثة لجمهورية يوليو, تستقصي المقدمات الواعدة, والنتائج الكارثية, وتتساءل لماذا أفضت هذه إلي تلك؟. في مقاربة أولي يسعي د. محمد عفيفي أستاذ ورئيس قسم التاريخ الحديث بجامعة القاهرة إلي تلمس إجابة من منظور العهد الناصري يراها محقا في غياب الديمقراطية, الهدف السادس لثورة يوليو. وفي مقاربة ثانية يحاول د. عصام عبد الله أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس تقديم الإجابة نفسها من منظور العهد الساداتي, يراها في النزعة التلفيقية التي أصابت السياسة المصرية في عهده, فكان يقوم بالشيء وضده في الآن نفسه, وهو ما أدي إلي فقدان مصر لحال الاتزان والثقة التي كانت قد اكتسبتها في العهد الناصري. وفي المقاربة الثالثة يتلمس كاتب هذه السطور إجابة من منظور العهد الأخير, يراها كامنة في منطق التاريخ, الذي لا يسري عليه بحال قوانين الفيزياء الساكنة, بل قوانين البيولوجيا المتحركة, وطالما أنه لم يتحرك إلي الأمام, فإنه سوف يجبر بالضرورة علي التراجع إلي الخلف, وهو ما حدث لمصر حينما ضيعت فرصتين للانطلاق الشامل بداية التسعينات الماضية, وبداية الألفية الراهنة, بفعل رغبة الرئيس السابق في امتلاك مصطنع لكاريزما هو غير مؤهل لها طبيعيا, وفي اصطناع نظام توريث جمهوري يتناقض مع مسماه منطقيا.

عهد ناصر..
عدالة اجتماعية وغياب للديمقراطية
د. محمد عفيفي
درج المؤرخون علي الحديث عن فترة جمال عبد الناصر باعتبارها الجمهورية الأولي في تاريخ مصر, لكن هذا لا ينفي أن عبد الناصر لم يكن هو أول رئيس لمصر. فمن المعلوم أن ثورة23 يوليو قد ألغت الملكية في18 يونيو1953 أي بعد قرابة عام من قيام الثورة, وكان اللواء محمد نجيب الأب الروحي للثورة هو أول رئيس للجمهورية, لكن الصراع المتصاعد بين نجيب وفريقه وعبد الناصر وفريقه سيؤدي لتنحية نجيب عن السلطة في عام1954 ووضعه قيد الإقامة الجبرية لسنوات طويلة كاد أن ينسي فيها الشعب المصري أن نجيب هو أول رئيس للجمهورية. ومنذ عام1954 وحتي وفاته في1970 سيرسي جمال عبد الناصر قواعد النظام الجمهوري المصري.
وسيعاني ناصر في بداية حكمه من ضعف شعبيته واستمرار شبح محمد نجيب يخيم علي أجواء السياسة المصرية حتي بعد تنحيته, وستشهد الفترة التالية الكثير من الصدام بين ناصر والقوي السياسية المختلفة وأبرزها الإخوان; فضلا عن تخوف ناصر الدائم من حدوث انقلاب عسكري ضده, فهو لم ينس بعد أنه جاء من خلال انقلاب عسكري وأن هذا ربما يعطي مشروعية لأي ضابط آخر للانقلاب عليه. من هنا سيحرص ناصر دائما علي تحول هذا الانقلاب إلي ثورة اجتماعية واقتصادية, لكن هذا الخوف المزمن سيؤدي كما سنري بعد ذلك إلي علاقة غريبة وصدام خفي بين ناصر وعبدالحكيم عامر.
سيبدأ عبد الناصر أولي خطوات تأكيد شعبيته من خلال تعويض ايقاف الثورة للتطور الليبرالي الذي شهدته مصر قبل1952, رغم تحفظنا علي هذا التطور, بإنشاء الاتحاد القومي في يناير1956 في محاولة لعلاج قرار الثورة بحل الأحزاب السياسية في عام.1953 هذا الاتحاد الذي سيتحول بعد ذلك في عام1962 إلي الاتحاد الاشتراكي العربي. هكذا تخلت جمهورية ناصر عن التراث الليبرالي القديم بكل مزاياه وعيوبه, ولجأت إلي نظام الحزب الواحد الذي يري البعض أنه يتماشي مع الفكر الثوري والحركات الوطنية آنذاك من خلال مفهوم تحالف قوي الشعب العامل, لكن هذه النقطة بالذات والتي كانت أحد أهم مبادئ ثورة يوليو, ونقصد إقامة حياة ديمقراطية سليمة, سوف تصبح أهم نقاط ضعف جمهورية عبد الناصر, وأيضا أهم الانتقادات التي وجهها إليه معارضوه, والتي سببت له احراجا كبيرا من حيث تخليه عن مبدأ من مبادئ ثورة يوليو. لذلك حرص عبد الناصر سريعا وفي عام1956 علي إجراء استفتاء علي رئاسته للجمهورية وعلي طرح دستور جديد في نفس الوقت. وجاءت نتيجة الاستفتاء بأغلبية99.9%, هذا الرقم الذي سيشكل بعد ذلك أكبر عيوب النظام الجمهوري المصري وسيستغله البعض ضد عبد الناصر كدليل علي غياب الديمقراطية في ذلك العصر.
لم تستقر شعبية عبد الناصر ولا النظام الجمهوري في مصر إلا بعد حرب1956, فعلي الرغم من الهزيمة العسكرية للجيش المصري والتي لم تكن مستغربة نظرا لمواجهة هذا الجيش الوليد لثلاثة جيوش: بريطانيا وفرنسا وإسرائيل, إلا أن عبدالناصر والدبلوماسية المصرية قد استطاعا تحويل هذه الهزيمة العسكرية إلي نصر سياسي, وهنا تحول عبدالناصر إلي أيقونة العرب بل وحركات التحرر الوطني في العالم.
هكذا بدأ الاستقرار النسبي يدب في أوصال الجمهورية المصرية لكن ستبقي الديمقراطية هي نقطة ضعف عبد الناصر التي يستغلها ضده حتي أقرب أصدقائه; ففي عام1962 وفي ظل أزمة من أزمات الثقة المتبادلة بين عبد الناصر وعبدالحكيم عامر, ينكأ الأخير هذا الجرح المزمن, إذ يوجه خطابا إلي عبد الناصر يطالبه فيه بحرية الصحافة وضرورة العمل علي إرساء قواعد الديمقراطية في مصر. ترتب علي ذلك المزيد من ضعف عبد الناصر أمام عامر والمزيد من الصلاحيات المطلقة لعامر في شتي شئون البلاد. وسيظهر ذلك مرة أخري حتي بعد هزيمة1967 إذ سيرفع تيار عامر قميص عثمان من جديد وهو العودة المباشرة للديمقراطية مما أزعج عبد الناصر بشدة لأنه يظهره في صورة اللاديمقراطي أمام جماهيره.
وفي رأينا لم يكن عبد الناصر في داخله معاديا للنظام الديمقراطي لكنه وفي إطار مفهوم' المستبد العادل' كان مؤمنا إيمانا راسخا بأن مشروعه الانتقالي هو المشروع الأصلح لتأهيل الجماهير للديمقراطية السليمة. ولعل أبلغ دليل علي ذلك هو لجوؤه, كما أشرنا من قبل, إلي مجالس شبه ديمقراطية كهيئة التحرير والاتحاد القومي وصولا إلي صيغة الاتحاد الاشتراكي. ولم يكن عبد الناصر في الحقيقة يؤمن بجدوي مجلس الأمة' برلمان ذلك الزمان', كما فقد ثقته في الاتحاد الاشتراكي لذلك فضل عبد الناصر أن ينشئ تنظيما سريا من داخل رحم النظام هو التنظيم الطليعي ليكون هذا التنظيم هو نواة' حزب الثورة' عندما يأتي الأوان وتنتهي المرحلة الانتقالية وتعود الديمقراطية من خلال التصور الناصري بنشأة حزبين من رحم الثورة أحدهما في السلطة والآخر في المعارضة.
هكذا نلاحظ أن عبد الناصر ظل أمينا لفكرة المستبد العادل, الزعيم الذي ينظر وحده لمستقبل الأمة, هذه الأمة التي لم تبلغ بعد المنزلة التي تؤهلها للنظام الديمقراطي, وهكذا أيضا تجاهل عبد الناصر تراث الأمة الديمقراطي قبل ثورة.1952
ويعترف عبد الناصر حسب د. ثروت عكاشة بفشل نظام ما قبل يونيو1967:' لقد سقط نظامنا يوم9 يونيو ولا أوافق من يقول إن المظاهرات التي خرجت كانت إعرابا عن الثقة في النظام, فنحن نبدأ بداية جديدة'. ولذلك يختلف النظام الناصري بعد1967 عما قبله, ويذكر ثروت عكاشة في مذكراته غضب الشباب أثناء مظاهرة1968 من النظام وليس من الزعيم( غير أن ما آلمه في تلك المظاهرات هتاف يتضمن هذه الكلمات:' مفيش تغيير بالمرة والعيشة بقت مرة'. وسيؤدي ذلك إلي بداية كفر عبد الناصر بأركان النظام القديم. وعندها تم طرح بيان30 مارس1968 الذي اعتبره بدايات الإصلاح السياسي للنظام, كما سيبدأ في مراجعة سياسته العربية حيث يجمع الكثيرون ممن حوله في تلك الفترة علي شكواه الدائمة من ضعف التأييد العربي له آنذاك, وسيبدأ ناصر في خطوات إزالة آثار العدوان بالاستعداد للحرب من جديد. وستمتاز سياسته الخارجية في تلك الفترة القصيرة67-1970 بالكثير من التعقل والحكمة والتعامل مع الأمر الواقع وكيفية الوصول إلي الحل الممكن. ولعل قبوله لمبادرة روجرز1970 هو خطوة في هذا الاتجاه رغم الاتهامات الظالمة التي وجهتها بعض المنظمات الفلسطينية إليه.
في تصورنا أن العمر لم يستمر بناصر طويلا بعد1967 ولو حدث لوجدنا ناصر أخر يتميز بالمزيد من الحكمة والواقعية; ولكان قد قام باستكمال بناء الجيش والحرب مع إسرائيل ربما قبل عام1973 م. وربما كان من الطبيعي أن يدخل عبد الناصر بعد هذه الحرب في مفاوضات طويلة مع إسرائيل والغرب, ولكن كاريزمية عبد الناصر وتاريخه النضالي الطويل كانا سيساعدانه علي الحصول علي مكاسب علي الأرض ربما أكثر بكثير مما توفر بعد ذلك للسادات. ونعتقد أيضا أن عبد الناصر كان سيبدأ بعد هذه الحرب مباشرة في إرساء قواعد الديمقراطية في مصر حتي يندمل جرحه القديم من عجزه السابق عن تحقيق مبدأ الثورة' إقامة حياة ديمقراطية سليمة'. ولن يختلف في رأينا أسلوب عبد الناصر عن أسلوب السادات في خطوات تطبيق الديمقراطية سواء كانت منابر أو أحزاب من داخل النظام, وقدر أوسع من حرية الصحافة, لكننا نعتقد أن كاريزمية عبدالناصر وانتصاره في الحرب والسلام, كما تخيلنا, كانا سيعطيان مناخا أفضل للديمقراطية عن هذا المناخ الذي توفر لخلفه السادات. وربما لجأ عبدالناصر إلي المزيد من الانفتاح الاقتصادي, ولكن ليس علي النهج الساداتي كما وصفه أحمد بهاء الدين:' الانفتاح الاقتصادي سداح مداح', ولكن من مفهوم الرأسمالية الوطنية. وأزعم أن فكرة العروبة عند عبدالناصر كانت ستأخذ ابعادا أكثر واقعية وربما ستميل إلي الاهتمام أكثر بالجوانب الاقتصادية والثقافية عن الجانب السياسي, وربما اعترف عبدالناصر بالتنوع والتعدد داخل إطار العروبة.
ومهما يكن من أوجه النقد للجمهورية الناصرية فإن ذلك لا يقلل أبدا من القيمة التاريخية لناصر ونظامه, بعظيم إيجابياته وكبير أخطاءه; فمن يستطيع أن ينسي حلم تصنيع مصر وإدخال مصر عصر الثورة الصناعية, رغم كل عيوب نظام القطاع العام; ومحاولة تحقيق العدالة الاجتماعية مما ساعد بحق علي قوة الطبقة الوسطي في عصره; و'ضربة المعلم' بتأميم قناة السويس; ومن ينسي السد العالي وقصة الإرادة المصرية وراء بنائه؟
وبين الماضي وأحداث الحاضر لابد من الاعتراف بنقاء يد عبدالناصر وبعده عن الفساد وبقائه رمزا للطهارة الثورية مقارنة بمن استنزفوا ثروة مصر وحولوها إلي أرصدة في الخارج. لكن الديمقراطية في الحقيقة كانت هي أهم أسباب ضعف الجمهورية الناصرية, وربما هي الميراث الثقيل الذي سيتركه للجمهوريات التالية.

عهد السادات..
تراجع العدالة وارتباك السياسة
د. عصام عبد الله
يصعب الحديث عن' الدولة' بالمعني العلمي في عهد الرئيس السادات(1970 ذ1981)() منذ عام1974 وحتي اغتياله في أكتوبر عام1981, فضلا عن استخدامه لأسلوب' الصدمات الكهربائية' طيلة فترة حكمه, وضع مصر سواء بوعي أو دون وعي- كأول دولة عربية شرق أوسطية في' مهب رياح العولمة' بكل ما تحمله هذه الرياح من زوابع واضطرابات في مجمل وظائف الدولة, ومن ثم في مشروعيتها نفسها.
فقد حطم الطابع الشمولي للدولة المصرية رغم أن حكمه كان شديد الفردية, حمل كل سمات الشمولية والديكتاتورية, فتح الباب أمام التعددية الحزبية لكنها ظلت تعددية هشة ومقيدة, أراد ديمقراطية' تفصيل' علي مقاس بزته العسكرية, لكنه سرعان ما ضاق بالديمقراطية فأصدر' قانون العيب', وحاصر النشاط السياسي لأحزاب المعارضة, وتعقب المختلفين في الرأي فيما سمي بالمساءلة السياسية.
رفع شعار' دولة المؤسسات وسيادة القانون', وأقصي الإرادة الشعبية من العملية السياسية بنسبة9 و99%. بل أن معظم قراراته الداخلية والخارجية كانت علي العكس تماما مما جاء في دستور.1971
نجح في تغيير مسار مصر من نظام اشتراكي حول المحور الروسي الشيوعي, إلي النظام الغربي ومركزه الولايات المتحدة, وإن ظلت المادة الأولي في دستور1971 تصف هذا النظام بأنه' نظام اشتراكي ديمقراطي يقوم علي تحالف قوي الشعب العاملة.
حقق في حرب أكتوبر1973 أكبر انتصار عسكري في التاريخ الحديث واستعاد هيبة مصر في المحافل الدولية, وذهب إلي القدس المحتلة في1977 رغم المعارضة العربية وأبرم اتفاقية' كامب ديفيد' للسلام عام.1979
نعم, لقد وضع السادات مصر علي طريق العولمة( وهي في رحم الغيب), لكنه عاد بالدولة المدنية( العصرية) التي أسسها محمد علي إلي مرحلة القبيلة من خلال ترييف مصر والدعوة إلي( أخلاق القرية), فضلا عن أنه ضرب فكرة' المواطنة الكاملة' في مقتل.
من أبرز مفارقات السادات أنه كان يعلن في خطبه وأحاديثه لوسائل الإعلام, أنه:' لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين', بينما تحولت أنصاف الاعتقادات في عهده إلي اعتقادات تامة عند العامة, وكان أول من وظف الدين في الصراع السياسي الداخلي, إذ تحالف مع الجماعات الإسلامية لضرب قوي اليسار, ولعب بالنار حتي ألتهمته في يوم عرسه, ولا تزال جذوتها مشتعلة تحت الرماد وفوقه كلما هبت الرياح. وهو ما أدي إلي اهتزاز عنيف لمقومات الدولة المدنية نتيجة التضارب بين ثلاثة أنواع من الحريات الأساسية, الحرية الدينية والحرية في العمل الاقتصادي, والحريات السياسية.
وأصبحت الدولة المصرية تعيش حالة فريدة, لا هي دولة مدنية خالصة ولا هي دولة دينية كاملة, وبين هذه الدولة وتلك يمكننا أن نستكشف مصادر المياه الجوفية التي تكاد أن تفتك بالوطن الواحد. ناهيك عن أنه تعامل مع كل الأحداث الطائفية أمنيا وليس سياسيا, بدءا بالخانكة وانتهاء بالزاوية الحمراء عام1981, حيث لا يزال تقرير الدكتور جمال العطيفي عام1972 قابعا في الأدراج إلي اليوم.
في ظل هذا المناخ برز خطاب ديني جديد في شكله ومضمونه يستخدم تعبيرات وطقوس كغطاء لما يجري في العمق, يتظاهر بالتقوي والورع بينما الواقع يسير في الاتجاه المعاكس, حيث اعتبر ألمع المشايخ شهرة في السبعينيات: أن الثراء السريع مظهر من مظاهر رضاء الله. وهو خطاب كان يبرر ويكرس للدولة الرخوة بمفهوم عالم الاجتماع السويدي'( جنار ميردال) وبتأصيل جلال أمين في كتابه' مصر والمصريون في عهد مبارك20081981', إذ يقول:' تحولت الحكومة في مصر خلال السبعينيات إلي دولة رخوة, وتضاءلت مكانة الوزراء, وظهر من الموظفين من يذهب إلي مكتبه الحكومي في الصباح ويتاجر في العملة بعد الظهر, وأصبح كل شيء خاضعا للمفاوضة والمساومة, وكل شيء متوقف في النهاية علي الشطارة'.
إن إقراره لقانون الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات كان يعني ضمنيا تفكيك القطاع العام والصناعات الوطنية وإفساد المشروع الوطني والمكتسبات الاجتماعية للطبقات الشعبية وإعادة عصر العمالة الأجنبية, فكانت انتفاضة18 و19 يناير1977 نقطة فاصلة بين عصرين.ولعب الإعلام دورا في تغييب الوعي وانتشار حمي الاستهلاك من خلال المسلسلات والإعلانات التي داعبت تطلعات الناس( المكبوتة) وطموحاتهم, وزاحمت أغان من قبيل( السح الدح أمبو) و(أم حسن) و( بنت السلطان) لأحمد عدوية في سوق الكاسيت روائع فيروز وعبد الحليم وأم كلثوم, وفرضت ثقافة' الفهلوة' والمعلبات سابقة التجهيز مع انتشار الاستيراد والتوكيلات الأجنبية الأمريكية. وهنا يكتب فؤاد زكريا في كتابه( العرب والنموذج الأمريكي):' لقد أصبحت الوصفة غاية في البساطة, أمريكا بنت نفسها في قرنين من الزمان, وأصبحت أعظم بلاد العالم. إذن فإتباعنا للنموذج الأمريكي سوف يجعلنا بدورنا عظماء متقدمين, وسينقلنا من الفقر إلي الغني, ومن الضعف إلي القوة, هذه العقيدة الجديدة لا توجد فقط في عقول بعض الزعماء بل تتسرب بشتي الوسائل إلي عقول الناس العاديين'.
لكن يبدو أن التبعية الكاملة لأمريكا كانت لها آثار أبعد مدي من حدود الجغرافيا والتاريخ وقتئذ, وعندما قال في وقت مبكر إن99% من أوراق اللعب في يد أمريكا, كان يحسم- دون أن يدري- الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة لصالح الأخيرة, فقد أعلن' هنري كيسنجر' وزير الخارجية الأمريكي الأشهر صاحب الرحلات' المكوكية' في مفاوضات السلام مع إسرائيل: أن الألفية الثالثة بدأت في العام1979, الذي شهد ثلاثة أحداث: نجاح ثورة الإمام الخوميني في إيران وصعود نجم المحافظين في انجلترا بزعامة' مارجريت تاتشر' واتفاقية( كامب ديفيد) للسلام بين مصر وإسرائيل, بفضل جسارة السادات.
لم يشفع للرئيس المؤمن محمد أنور السادات(19811918) أنه رئيس مسلم في دولة مسلمة, ولا اعتبار نفسه' آخر الفراعنة' و'كبير العائلة' في' دولة العلم والإيمان', ولا ظروف عصره الحافل بالأحداث التاريخية والمفعم بالتطورات المتلاحقة في الشرق الأوسط والعالم, فقد تمنت معظم القوي السياسية رحيله, حيث لقبه اليمين خصوصا الديني ب' الطاغوت الكافر' ووصفه اليسار ب' العميل الخائن'.
وانتقد نجيب محفوظ انقلابه علي الديمقراطية رغم تأييده زيارة القدس ولخص في روايته' حديث الصباح والمساء' عهد السادات المضطرب من بدايته وحتي نهايته, فضلا عن الآثار المترتبة عليه, بقوله:' ما هذا القرار أيها الرجل ؟ تعلن ثورة في15 مايو ثم تضيعها في5 سبتمبر, تزج في السجن بالمصريين جميعا من مسلمين وأقباط ورجال أحزاب ورجال فكر, لم يعد في ميدان الحرية إلا الانتهازيون, فلك الرحمة يا مصر'.
عهد مبارك..
تلاقي الفرعونية السياسية مع المملوكية الاقتصادية!
صلاح سالم
كان ثمة أمل في تحول التعددية المقيدة الموروثة عن العهد الثاني لجمهورية يوليو إلي تعددية حقيقية في العهد الثالث, تعكس تباينا في مراكز القوة السياسية, وتتيح إمكانية تبادل السلطة, ولكن عقودا ثلاثة مرت من دون تنازل الرئيس السابق عن احتكاره للسلطة. غير أنه من قبيل الإنصاف القول إن نظامه قد مر بمراحل ثلاث أساسية تمايزت خلالها سمات شخصية الرئيس, ومعالم فلسفة الحكم:
المرحلة الأولي: يمكن وصفها إجمالا بالإيجابية وتمتد من1981 حتي1990 م. وخلالها اتسمت شخصية مبارك بالواقعية الشديدة والتواضع الواضح, والرغبة في الاستماع إلي الآخرين, مما كان يتبدي في حواراته مثلا مع المفكرين والكتاب في مناسبات مختلفة. واستنادا إلي تلك السمات استطاع أن يعبر بمصر حالة الاحتقان الشديد المتولدة عن حادث المنصة وانفجار العنف السياسي المتأسلم في موازاة فتنة طائفية متنامية. كما تمكن من إجراء استحقاقين انتخابيين شبه نزيهين عامي1984, و1987م, علي أساس القائمة النسبية, أنتجا معارضة حزبية معتبرة من حزبي الوفد والعمل المتحالفين مع الإخوان المسلمين. وخارجيا تمكن من استعادة علاقات مصر العربية, متجاوزا حال المقاطعة التي ترتبت علي معاهدة السلام مع إسرائيل. واقتصاديا تمكن من تجاوز حالة الأزمة الاقتصادية الضاغطة من خلال عقد عدة مؤتمرات اقتصادية, وتنفيذ خطتين خمسيتين حققتا نوعا من الإصلاح المالي أتي ثماره في العقد التالي.
وأما المرحلة الثانية فتمتد بين عامي1990 وحتي1999 م, ويمكن وصفها ب' الراكدة', حيث اكتست شخصية الرئيس بملامح مستجدة غطت علي ملكة التواضع بطبقة من النرجسية, وعلي الواقعية بمسحة من التعالي, وهي ملامح نتصور أنه اكتسبها بفعل الدور المصري في حرب( عاصفة الصحراء) لتحرير الكويت من القبضة العراقية, والذي استطاعت مصر من خلاله الحفاظ علي الشرعية الإقليمية, وتأكيد سياساتها الرافضة لانتهاك السيادة الوطنية وذلك عبر مشاركة فعالة ضمن التحالف الدولي/ الأمريكي بقوات برية بلغ عددها35 ألف جندي.
كان من نتائج هذا الدور تحسن صورة مصر الدولية, وإسقاط جزء كبير من ديونها, وكان تلك الأرضية مناسبة تماما لانطلاقة نهضوية جديدة لو لم يحدث ذلك التحول في شخصية الرئيس بفعل امتداح الإعلام الغربي ل' حكمته السياسية', ودوره' الواعي' الأمر الذي أكسبه طموح الزعامة العربية. ولأن شخصيته لم تكن تحتوي( جوهريا) علي المكونات الكاريزمية للزعامة فقد حاول اصطناعها عبر طريقين: أولهما التوقف عن الإنصات للآخرين, والكف عن الرغبة في التعلم منهم, فكيف يفعل وهو حكيم المنطقة؟. وثانيهما النزوع إلي التخلص من الوزراء ورجال الدولة أصحاب الصيت لدي الجمهور. فطالما أن كاريزميته الطبيعية محدودة, وطالما قرر أن يكون' الزعيم' فلا يجب أن تعلو قامات أخري علي قامته, ومن ثم كانت تلك المفارقات التي لاحظها الناس في العقدين المنصرمين مع كل تغيير وزاري, فمن يرحلون هم المجيدون الذين تعلق بهم الناس, ومن يبقون هم الفاشلون الذين كرههم الناس. وقد أدي هذان الأمران إلي بداية انفصال مبارك عن الشارع, وإلي فقدان مصر لأبرز كفاءاتها السياسية خصوصا مع نهاية العقد ورحيل حكومة د. كمال الجنزوري.
وهكذا فشل النظام في الاستفادة من إنجازات العقد السابق في تحقيق الانطلاق. فاقتصاديا استمر الإصلاح المالي قائما, وبدأ قطار الخصخصة رحلة سيره, ولكن من دون قدرة علي طرق باب إصلاح اقتصادي منتج وفعال يقوم علي التصنيع الثقيل والتشغيل الكثيف. وسياسيا فشلت مصر في التكيف مع الموجة الثالثة للديمقراطية, تلك التي هبت علي العالم بنهاية الحرب الباردة, بل إنها شهدت تراجعا واضحا في نزاهة انتخابات عامي1995,1990 فخلا البرلمان تقريبا من تمثيل المعارضة. أما المرحلة الثالثة فتمتد بين1999 وحتي سقوط النظام, ويمكن وصفها' بالسلبية' بامتياز, حيث انفصل الرئيس تماما عن الجماهير بفعل عامل السن والمرض اللذين قللا من قدرته علي الإدراك والحركة, ودفعاه إلي الانطواء علي الذات, وإدارة البلاد بمنطق العامل الأجير, أي بإيقاع اليوم الواحد. وأيضا بفعل حضور الابن( جمال) ونمو دوره السياسي, وخصوصا بعد احتلاله لموقعه الحزبي أمينا للجنة السياسات عام.2004 واضطراره, بعد ذلك, إلي دفع رشاوي كبري للعالم الخارجي, لضمان استمرار الشرعية الخارجية للنظام سواء في حال التمديد له, أو التوريث للابن حينما يأتي موعده, ظنا منه بأن الرضا الغربي/ الأمريكي إما أنه قادر علي تقديم ضمانات لذلك التحول أو علي الأقل تقديم غطاء له. وهنا أخذ الدور الإقليمي المصري يتآكل بشدة وصولا إلي درجة الجمود, إبان الحربين الإسرائيليتين: علي لبنان2006 م, وغزة2008 م, حيث بدت خلالهما مصر عاجزة عن فعل شيء يذكر عسكريا كان أو سياسيا.
وعلي رغم أن تلك المرحلة قد شهدت نوعا من الاستقرار السياسي, إلا أنه ليس ذلك الاستقرار النابع من رسوخ التوازن بين مؤسسات النظام, وبين القوي المجتمعية الفاعلة, علي نحو يعبر عن قبولها للنظام القائم ويحقق لها إمكانية التأثير علي مسار السياسة العامة, وعلي صنع القرار الوطني, بل هو ذلك الاستقرار المؤسس علي تجميد السياسة نفسها كفعل ونشاط بفعل الاستخدام المفرط لقانون الطواريء, والإشراف الأمني علي شتي مجريات الواقع السياسي بدءا من انتخابات اتحادات الطلاب الجامعية, مرورا بالنقابات المهنية, وصولا إلي الانتخابات البرلمانية. وهنا نجد أن المكونات المؤسسة لقاعدة الانطلاق الاقتصادي والسياسي, والتي تم مراكمتها في العقدين السابقين قد بليت وكان من شأن ذلك أن المجتمع المصري أخذ يعيش ثلاث ظواهر كبري تعكس درجة ما من درجات الانحطاط الحضاري:
الظاهرة الأولي: هي الفساد الناجم عن التحول في شخصية الرئيس وفلسفة الحكم, إذ تخلي عن القاعدة المجتمعية العريضة التي رعاها الرئيس عبد الناصر كليا, والرئيس السادات جزئيا, بطبقتيها الوسطي والدنيا, وأخذ ينشأ لنفسه طبقة جديدة مصطنعة صارت بنهاية المرحلة هي قاعدة حكمه الحقيقية التي احتكرت كل شيء تقريبا: السلطة والثروة والنفوذ, نمت علي أرضية نمط فج للثراء غير المرتبط بعطاء علمي أو إنتاج اقتصادي أو إبداع ثقافي بل بنوع من المضاربة المالية والاحتكار الاقتصادي خاصة في القطاع الخدمي والاستسهال في تحقيق الأرباح بالوكالة للصناعات والشركات الأجنبية واللعب علي فوارق الأسعار والعملات بدلا من النهوض بمهمة تصنيع مصر, وكذلك بأنواع مختلفة من الفساد والغش التجاري وصولا إلي السرقة الصريحة لأموال القطاع المصرفي, والهروب بها إلي الخارج.
وبالطبع لم يقتصر الفساد علي هذه الطبقة المصطنعة بل إنه, كرد فعل نفسي وعملي, تخلل المجتمع إلي درجة تبدو قاتلة نستطيع تلمسها في دورة شبه كاملة بين كل المهن والطبقات وذلك علي النحو التالي: مدرس لا يبذل جهده في تعليم الطلبة إلا بمقدار ما يثبت أنه علي صلة بموضوع الدرس حتي يتأكد الطلبة من كونه المدرس الخصوصي المناسب فيذهبون إلي بيته بأموال آبائهم. ولأن الأب طبيب, مثلا, ولا يملك من مرتب المستشفي العام الذي يعمل به ما يسد رمق أسرته فضلا عن متطلبات تلك الدروس, فإنه لا يعالج مرضاه الذي قد يتصادف أن ابن المدرس أحدهم, موفرا وقته وجهده للعمل في مستشفي استثماري أو عيادة خاصة في المساء يذهب إليها ابن المدرس نفسه, فإذا ما ذهب كلاهما, أي المدرس والطبيب, إلي مصلحة حكومية فلن يتمكنا من قضاء حاجتيهما إلا بدفع الإكرامية لموظف لا تدفع له الدولة مرتبا حقيقيا. فإذا خرج الجميع الي الشارع وتصادف أن أحدهم يملك سيارة فهو مضطر لأن يدفع نثريات يومية لعسكري المرور المتأهب لكتابة المخالفات دون وجه حق, وللمتطفلين من الرجال والشباب الذين يعانون من البطالة ويرغبون في تصدير أزمتهم إلي الآخرين فيحتكرون أرصفة الشوارع, فيما لا تسعي أجهزة الدولة الي منعهم لأنها تتعاطف معهم باطنا ولا تملك لهم بديلا.
والظاهرة الثانية تتمثل في حال السلبية والنفاق المجتمعي العام, تلك المتولدة عن العلاقة المريضة بين الدولة والمجتمع, فالدولة تملك المجتمع, ولا قدرة للمجتمع علي محاسبة الدولة, فانزوي يعالج نفسه بنفسه, ويرتب لحياته من دونها, يعيش أزماته التي تطحنه أو يطحنها, ولكن المهم في كل الأحوال أن يسلك كجارية من حقها أن تئن وحيدة, وليس من حقها أن تزعج سيدها بأنينها حتي لا تفسد عليه غفواته وأوقات مرحه الخاص. وربما كانت أكثر الظواهر إيجابية في تلك الفترة المنصرمة تتعلق باتساع نطاق حرية التعبير, كما وكيفا كما هو مشهود, سواء عبر ظاهرة الصحف المستقلة, أو القنوات الإعلامية الخاصة التي اقتحمت الكثير من القضايا التي لم تكن لتطرح في الفضاء الإعلامي الرسمي. غير أن استمرار انغلاق النظام السياسي, وانسداد أفق التغيير, ومن ثم شعور الناس بالضياع وفقدان السيطرة علي المصير, قد حول الفضاء الإعلامي من منتدي للحرية إلي حائط مبكي يفجر لدي الناس احباطاتهم بدلا من إثارة أحلامهم إذ يكفي للمرء أن يقضي ليله أمام برامج التوك شو, صابا جام غضبه علي ما يري ويسمع, قبل أن يذهب إلي نومه مرهقا, ليصحو في اليوم التالي مكررا ما فعله في اليوم السابق, وهكذا دواليك. وفي هذا السياق يمكن النظر إلي ما جري في السنوات الممتدة بين2011,2006 م من احتجاجات علنية وإضرابات متوالية لفئات كثيرة باعتباره خروجا علي هذه العلاقة المريضة بين الدولة والمجتمع أملا في إحداث قطيعة تاريخية مع الميراث الطويل للنفاق السياسي.
أما الظاهرة الثالثة فهي الفتنة الطائفية التي نمت بإيقاع متزايد منذ بداية الثمانينيات. لقد بزغت أولا في المناطق العشوائية حول القاهرة الكبري حيث يشيع الفقر ويغيب الأمل, ثم في جنوب الصعيد حيث يشيع الجهل, وتتحكم التقاليد البالية. وفي الأعوام القليلة الماضية وصلت إلي مدينة كالإسكندرية, طالما اتسمت بالتسامح, واستوعبت كل الأجناس تقريبا من يونان وطليان وفرنسيين وإنجليز ويهود وأرمن وغيرهم, ولكنها صارت فجأة تضيق بأهلها.
ترجع تلك الظاهرة, في الأغلب, إلي الحضور الملتبس للدولة في حياة المصريين بين حضور أمني كثيف بغرض الضبط والقسر, وحضور سياسي خفيف لا يفي بمهمة القيادة والتوجيه. والمؤكد أنه عندما تنزوي الدولة كإطار يستوعب حياة الناس ويلهمهم حس اتجاه نحو المستقبل, تبدأ بدائلها في الظهور, وهنا تندفع النعرات الجهوية والانتماءات الدينية وربما القبلية إلي صدارة الساحة السياسية باعتبارها الوريث الطبيعي للوحدة الكبري أو اللحمة الوطنية. ولعل الأمر المشهود في العقدين الماضيين هو تحول الكنيسة, والمسجد في مصر من مجرد دور للعبادة تشهد ممارسة لطقس روحي, الي مجمعات متكاملة تقدم خدمات دنيوية متعددة لفقراء الجانبين, فصارت المساجد والكنائس بديلا عمليا للمستشفيات والعيادات الصحية, ولتجمعات الدروس الخصوصية. كما أصبحت حاضنة لإقامة المآتم, وللاحتفال بعقد القران وطقوس الزواج ولتنظيم رحلات ترفيهية, أو معسكرات رياضية, أو حلقات دعوة وتوعية دينية في مناطق بعيدة عن مكان الإقامة.
وما من شك في أن هذا الدور المتعاظم للمساجد والكنائس, مع ضمور دور الأحزاب السياسية, وضعف بنيوي لدور المنظمات الأهلية, وهيئات المجتمع المدني, إنما يزيد من سيطرتها علي مقدرات الإنسان العادي, ويمنحها دورا أكبر في تشكيله حيث تزداد الجرعة الدينية أو الطائفية في تركيب الهوية الفردية علي حساب القيم الوطنية العامة التي طالما مثلت إطارا جامعا للانتماء, وبوتقة صهر مشتركة لعناصر المجتمع في أغلب مراحل تاريخه, خصوصا عندما كان يتلمس قدرة الدولة علي تبني أهداف كبري تكفل تحقيق النهوض الوطني, وتكرس للدور الإقليمي, وتصوغ, في المجمل, مشروعا وطنيا يستحق الحياة من أجله والاندماج فيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.