الحرية ليست إلا ثمرة طبيعية لنضوج التاريخ البشرى، فثمة أمم اكتسبت حريتها بحكمة التجربة واضطراد التطور الاجتماعي الاقتصادي على نحو تراكمى قلص من دور النخب التقليدية كما كان الأمر فى بريطانيا منذ زمن «الماجنا كارتا» أى العهد العظيم 1215م وخصوصا مع الثورة المجيدة 1688م. وثمة أمم اكتسبت حريتها عبر ثورات تحررية مثلت قطيعة مع التواريخ الموروثة عبر مخاضات جديدة ولو تعثرت قليلا كالنموذج الفرنسى. وثمة أمم نعمت بالحرية منذ ميلادها، إذ تمكن مؤسسوها من الامساك بالقيمة الأكثر إشراقا فى زمانهم، كما كان الأمر لدى النخبة الحاذقة التى أنشأت الاتحاد الأمريكى. أما فى مصر فقد استقرت فجوة الحرية قائمة رغم كل ما راكمه المصريون من خبرات نضالية، أو مارسوه من مشروعات تحديثية فى القرنين الماضيين، خصوا منذ ثورة عرابى مرورا بتجربة الوفد الليبرالية ولكن المتعثرة بفعل الاحتلال، فضلا عن ثورة يوليو والمشروع الناصرى للتحديث الجذرى، ولكن السلطوى. وربما ترجع هذه الفجوة إلى حقيقة أن ما بذله المصريون من ضغوط سياسية على النظام الحاكم «الوطنى» فى العقود الستة الماضية لم يكن بحجم ما بذلوه من تضحيات ضد االقوى الخارجية«، حيث تبلور إحساس المصريين التاريخى بالسياسة على نحو جمعى يحفزه الاهتمام بالقضايا الوطنية الكبرى كالاستقلال السياسى والشموخ العسكرى والهوية القومية، فلم تكد تعرف مصر مفهوم إدراة التوازنات إلا مع الآخر خارجها أيا كانت محددات غيريته، سواء كانت استعمارية كبريطانيا أو استراتيجية كإسرائيل، أو حضارية كالغرب. وليس على نحو فئوى تحفزه التباينات الاقتصادية والصراعات الطبقية، التى يمكن تجسيدها فى هياكل حزبية سياسية وصولا إلى الديمقراطية كآلية سياسية لإدارة التعددية والتنافس على السلطة. وقد استندت تلك الفجوة إلى أمرين أساسيين طالما أعطياها فرصة البقاء فى حدود الأمان حيث لا توترات عنيفة أو احتقانات عميقة، تهز العلاقة بين النخبة الحاكمة والمجتمع: أولهما وجود تحد خارجى من نوع الصراع العربى الإسرائيلى مثلا، أو المناكفة المصرية للولايات المتحدة والغرب فى إطار قيادتها لمشروع التحرر العربى. أما ثانيهما فيتمثل فى نهوض النظام الحاكم بدور الدولة االراعيةب أو الحاضنة للمجتمع ككل، وليس الدولة الحارسة التى تكتفى بإدارة الصراع بين الطبقات. غير أن عوامل التغيير التى هبت على مصر منذ النصف الثانى للسبعينيات عرت تلك الفجوة من ركيزتيها؛ حيث انقلبت نخبة الحكم على البنية الاجتماعية للمشروع الناصرى، بسلوكها طريق الانفتاح الاقتصادى المنفلت، وتخليها عن رعاية القاعدة المجتمعية العريضة، خصوصا الطبقة الفلاحية فى الريف، والطبقة العمالية مع الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى فى المدن. كما انتقلت سياستها الخارجية إلى السلام مع إسرائيل والتحالف مع الولاياتالمتحدة ابتعادا عن قيادة مشروع التحرر العربى. وكان ذلك الانقلاب على الركيزتين مبررا كافيا للخروج من فلك الدولة الواحدية التى «ترعى» الجميع إلى فضاء التعددية حيث يجرى االتنافسب بين نخب منقسمة فى ظل أوضاع جديدة وتصورات مستجدة للعالم، وربما كان ذلك هو دافع تجربة المنابر الحزبية ثم التعددية الحزبية، المقيدة التى دشنها السادات بنهاية حكمه. كان ثمة أمل استمر طيلة عصر مبارك فى تحول التعددية المقيدة التى أطلقها الرئيس السادات منتصف السبعينيات إلى تعددية كاملة تعكس التباين فى مراكز القوى السياسية، وتتيح إمكانية تبادل السلطة. غير أن عقودا ثلاثة مرت من دون بلوغ ذلك الطموح. ولعله صحيحا أن تلك العقود شهدت نوعا من الاستقرار السياسي، ولكنه ليس ذلك الاستقرار النابع من رسوخ التوازن بين مؤسسات النظام، وبين القوى المجتمعية الفاعلة، على نحو يعبر عن قبولها للنظام العام، ويضمن لها التأثير فى صنع القرار الوطنى، بل هو الاستقرار المؤسس على تجميد السياسة نفسها كفعل وحركة ونشاط، واستبدالها بالإعمال المفرط لقانون الطوارىء، والإشراف الأمنى على شتى مجريات الواقع السياسى بدءا من انتخابات اتحادات الطلاب الجامعية، وحتى النقابات المهنية، وصولا إلى التغلغل العميق داخل الأحزاب السياسية، ومحاولة تدجين قياداتها، أو بث الخصومة وإشعال النار بين المتنافسين داخلها بقصد شل حركتها وتعريتها أمام أنصارها والمجتمع السياسى كله. وقد زاد من وطأة ذلك التحول اصطناع الدولة لطبقة جديدة من رجال المال والأعمال، كقاعدة لها على حساب الطبقة الوسطى المصرية التى كان المشروع الناصرى قد كرس لها عبر آليات كالتعليم الواسع والتصنيع الشامل والتشغيل الكامل، حتى ولو اعترفنا بمحدودية مهاراتها نسبيا وطابعها البيروقراطى المتحلق حول الدولة غالبا. وقد أدى ذلك تدريجيا إلى تعويق عملية الصعود الاجتماعى، وركود النخبة المدنية، مثلما أعاق تمثيل التيارات الفكرية والسياسية داخل مؤسسات النظام تحت ضغط الإقصاء واليأس لصالح جماعات مصلحة هى خليط من الفساد، والبيروقراطية، ما أدى فى الأخير إلى موت السياسة، بانطفاء الزعامات الكبرى التى توالت على مصر الحديثة منذ العصر الليبرالى، وحتى نهاية عصر الرئيس السادات، وربما بدايات عصر مبارك، حتى صارت مصر أشبه بجسد ضخم دون رأس. بصعود نخبة مبارك الابن، واتباعها سياسات نيوليبرالية بدا أن الدولة تخلصت تماما من دورها الرعوي، من دون توجه نحو التعددية، ومن ثم تشوهت العلاقة بينها والمجتمع، وأخذت الفجوة «الديمقراطية» تخرج تدريجيا عن حدود الأمان، خصوصا فى مرحلة «غياب الأمل» الممتدة بين احتلال العراق 2003م و25 يناير 2011م، وهى حالة تصل إليها المجتمعات عندما يتبدى افتقادها للقدرة على الحياة من خلال نموذج قابل للاستمرار تجسده بنية حياتية معقولة على صعيد العمل والسكن والزواج يمكن للجميع تحقيقها بشكل عادى أو طبيعى من دون معجزات أو أعمال خارقة على النحو الذى يحكم شباب المصريين الآن ويدفعهم إما إلى الهجرة، وإما إلى الوقوف فى طابور الانتظار الطويل. كما تتدعم بفقدان هذه المجتمعات للشعور بقدرتها على السيطرة على مصيرها، وهى حالة يشعر بها المصريون منذ احتلال العراق واستئساد إسرائيل، على نحو أزهق الشعور بالكبرياء القومى لدى الجماعة المصرية التى امتلكت منذ زمن، لم يعد قصيرا، إحساسا بالمسئولية القومية، وحساسية شديدة تجاه الدور الإسرائيلي فى المحيط العربى. وإذ تضافر البعد الخارجى مع البعد الداخلى دخلت مصر نفق الأزمة الشاملة التى أودت إلى الانفجار الكبير. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم