هل أصبح التمييز الدينى والمذهبى والعرقى والمناطقي، وبحسب النوع الاجتماعى – ذكر وأنثى – ثقافة راسخة فى مجتمعاتنا العربية، ويساهم فى توليد الانقسامات الداخلية، ويساعد على خلخلة أسس الاندماج الاجتماعى والسياسي؟ ألا يشكل التمييز أحد معوقات بناء الوحدة الوطنية، ويُعسر عمليات تشكيل ثقافة المواطنة وحقوقها وواجباتها فى إطار دولة القانون الحديثة، والمساواة بين المواطنين؟ أحد أكبر الأخطاء السياسية فى بناء دولة ما بعد الاستقلال، إنها ركزت فى بناء الموحدات الوطنية على قوة القمع المشروع المحتكر بواسطة الدولة، فى فرض استراتيجيات للتكامل الوطنى تعتمد على بوتقة الصهر، وتوظيف أقسى درجات العنف المادى والرمزى لتشكيل وفرض منظومة من الرموز والموحدات القسرية، بقطع النظر عن التعدديات فى مكوناتها الأساسية – الدينية والمذهبية والعرقية والقومية والمناطقية – والتى تشكل مصادر للثراء والغنى الإنسانى والثقافي، وإنما أدركت نخب ما بعد الاستقلال التعدد فى المكونات الأولية بوصفه تعبيراً عن ضعف بنيوى وهشاشة فى تكوينها السياسي، وأن القمع المادى والرمزى هو السياسة الأكثر نجاعة فى إنتاج الوحدة الوطنية. هذه الاستراتيجية صاحبتها أنظمة وسياسات ومناهج تعليمية قامت على تسييد بعض التحيزات والإقصاءات، فى إطار سردية تاريخية متحيزة تحاول إخفاء السرديات التاريخية الأخرى لدى كل من مكونات المجتمع المتعدد، وفرض رؤية رسمية لتاريخ المجتمع والدولة. هذه السياسات التعليمية والتربوية لم تستطع أن تحذف السرديات التاريخية من الذاكرات الجماعية للمكونات الأولية الأساسية، وظل لكل منها تواريخه الخاصة ورموزه وأبطاله وحوادثه الكبرى التى تعاد وتتلى وتتداول فيما بين نخب كل مكون وقاعدته الاجتماعية التقليدية. من ثم لم يستطع عنف أجهزة الدولة المشروع، واللا مشروع فى عديد الأحيان أن يبلور ذاكرة وطنية عابرة للمكونات الأولية. الأهم أن منظومة الرموز والأخيلة والموحدات القسرية لم تستطع أن تؤسس لتفاعلات وأطر تشاركية ومؤسسات سياسية وثقافية تسمح بتوليد طوعى لموحدات كبرى ترتبط بها المكونات الأولية، وتؤدى إلى تشكيل قومية، ومن ثم أمة واحدة فى إطار الدولة الحديثة. إن نظرة على الأوضاع المضطربة، فى الإقليم العربى تشير إلى فشل استراتيجيات بوتقة الصهر بقوة القمع المشروع أيا كان، والأخطر فشل دولة ما بعد الاستقلال التى اختزلت فى الرئيس الانقلابي، أو القبيلة والطائفة أو العشيرة أو المنطقة، ومن ثم برزت ظاهرة شخصنة السلطة ومؤسسات الدولة الوليدة بعد الاستقلال. تجلى التمييز كسياسة وتحول إلى ثقافة فى نظام التجنيد السياسى للمواقع القيادية فى الدول عند قمة النظام السياسى الشمولى والتسلطي، أو فى أجهزة الدولة. تمدد التمييز وفق معايير متعددة إلى الدساتير والقوانين واللوائح والقرارات الإدارية، والأخطر تحول إلى جزء من تقاليد تفكير وعمل أجهزة الدولة البيروقراطية والأمنية، ومن ثم لم تستطع الدول والمجتمعات فى أعقاب الاستقلال أن تؤسس لقيم وأخلاقيات وثقافة مدنية داعمة للمواطنة والمساواة وحكم القانون الحديث. فى المثال المصرى لا تزال بقايا مواريث الدولة / الأمة حية إلا أن ثقافة التمييز وسياساته استطاعت أن تعوق تطور مصر السياسى والاجتماعى التحديثى والحداثى فى عديد المجالات، وعلى رأسها السياسة الدينية التى اعتمدت على احتكار توظيف الدين فى العمليات السياسة وبناء شرعية النظام والنخبة الحاكمة وصراعها على الدين مع الجماعات الإسلامية السياسية على تعددها واختلافها، اعتماداً على السياسة والمناهج التعليمية، والأزهر، وتركت مساحات للمناورة فى مصالحات وصراعات ما بين بعضها بعضاً، دون إيلاء عناية إلى مخاطر تمددها الاجتماعي، وبناء شبكات اجتماعية لها، تدعم حركتها وأنشطتها السياسية. الأخطر أن ترييف أجهزة الدولة طيلة أكثر من خمسين عاماً مضت وإلى الآن أدى إلى تحول التمييز الدينى والاجتماعى والنوعى الذكورى إلى مكون رئيس فى تشكيل ثقافة بيروقراطية الدولة المريفة، التى يميز بعضهم فيها ضد الأقباط والمرأة ... إلخ وإلى تمدد الفكره السلفى والإخوانى داخل هذه الأجهزة، وفى وسط المدرسين والمدرسات فى التعليم العام والفنى الرسمي، بل وامتد إلى بعض أساتذة الجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة! من هنا نستطيع فهم لماذا تتكرر التوترات الطائفية، وتفشل الحلول التى تقدمها بيروقراطية الدولة لمعالجتها على نحو ما يحدث فى قرى محافظة المنيا؟ والعودة إلى آليات ثبت عدم نجاحها كبيت العائلة، والمجالس العرفية والتلكؤ فى التطبيق الصارم للقانون على بعض العابثين بوحدة الأمة تحت وهم قوة قانون الأعراف، والأكثرية إزاء الأقلية، الذى يحطم وحدة شعب الدولة والأخطر من خلال بعض موظفيها العموميين. أن تكرار الأزمات الطائفية واحتقاناتها خلال فترات وجيزة أو متوسطة تشير إلى فشل ذريع لهذه المعالجات، وأن تكرارها هو فشل آخر للتعليم الدينى والمدنى المهجن بالدينى فى وزارة التعليم، أن مواجهة هذه المشكلات الطائفية لابد أن تتصدى لها الدولة بالقانون وبحسم. وهنا لابد من اتخاذ ما يلى من إجراءات: إعداد منهج للتعليم على المواطنة والحرية الدينية فى كافة مراحل التعليم. ورش عمل لتدريب رجال الدين، والمدرسين والمدرسات. إنشاء مجلس وطنى لشئون الأديان يتشكل غالبه من شخصيات عامة مستقلة، وقلة من رجال الدين ذوى النزعة التجديدية والانفتاح على الواقع والعالم. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح