أنا الطفل، أنا المسافر، أنا المهاجر للعالم الآخر، أنا المحلق في سماء الجنة، أنا الذي سوف يأتى يوم الحساب وأشهد أمام الله أنهم بإهمالهم اغتالوا براءتي وأزهقوا روحي، وأنا لست حزينا لأنني سوف ألعب مع رفاقي في الجنة، ولكنى سأشتاق لحضن أمي وحنان أبي وسوف أقف على باب الجنة ولن أبارحه لأكون في استقبالهما يوم الحساب. كلمات بطعم البراءة ورائحة الحزن كان يهذي بها الطفل قبل أن يقبض ملك الموت روحه الطاهرة بجوار "ثلاجة كشك" بعد أن اغتالته يد الاهمال وعصفت بأحلام أسرته، ومات الصغير وهو صائم ليظل هذا الطاعون الذي استشرى في شوارع المحروسة يلتقط أرواح أطفالنا داخل البالوعات تارة أو بجوار أعمدة الإنارة بالإضافة إلى أسلاك الكهرباء التي تخرج من ثلاجات الأكشاك على مرأى من مسئولي الكهرباء والأحياء الذين يغضون البصر عن كل شىء مخالف ليدفع الأبرياء فاتورة الإهمال، هو طفل لم يتعد عامه الثامن ورغم صغر سنه أصر على صيام شهر رمضان وأداء الصلوات في أوقاتها وكأنه كان يعلم أن أيامه في الدنيا معدودة وأنه يجهز للرحيل. في اليوم الذي لم تشرق فيه شمس النهار، وكأنها أعلنت الحداد على رحيل البرىء والتمرد على الإهمال الجسيم خرج محمد كعادته ظهرا لأداء الصلاة في المسجد القريب من منزله بمدينة الخارجة بمحافظة الوادي الجديد، وكلمات محفوفة بالحذر والدعاء تخرج من صدر أمه بأن يعتلى الرصيف ويمشى عليه ليكون بعيدا عن السيارات التي تجول الشوارع بسرعة، ولم يدر بخلدها أن كشك الحلوى أمامه مقبرة تلتقط أجساد كل من يقترب منها، فثلاجة المشروبات تخرج منها كمية من الأسلاك العارية، وما أن انتهى محمد من أداء صلاته وسار بجوار الكشك وفجأة صرخ الصغير صرخة أفزعت المارة ثم سقط على الأرض وفي لمح البصر تجمع العشرات والصغير يصارع الموت ويهذي بكلمات المسافر وكأنه رأى مقعده في الجنة قبل أن تفارق روحه الطاهرة جسده، ومرت الدقائق على أمه كالدهر فهو الذي اعتاد أن يعود لبيته بعد أن يفرغ من صلاته مباشرة، وتسلل الخوف إلى صدرها، ونزلت مفزوعة إلى الشارع للبحث عن فلذة الكبد ونور العين، وشاهدت حشد من الناس يجتمعون وسيدات يصرخن من الأعماق ويدعين بالصبر لأم الفقيد، وكان المشهد أقسى من أن يوصف حيث شاهدت صغيرها مطروحا على الأرض وقد فارق الحياة. وكادت أصوات صراخها تفزع الطير المحلق في السماء، فكيف مات ابنها الأكبر محمد ذى السنوات الثمانى، وهو لم يشكو من أي مرض، ولم يمر على خروجه من المنزل أكثر من نصف ساعة فماالذي جرى له حتى كانت الطامة الكبرى والمفاجأة التي قسمت ظهرها عندما أبلغوها أن سلك كهرباء خارج من ثلاجة المشروبات بكشك الحلوى صعق نجلها أثناء سيره، حملت الأم الثكلى ثرى الأرض على رأسها وهى تحتضن صغيرها بين ضلوعها وتنفث في فمه لعل روحه تعود إليه، ونزعوه من أحضانها بالقوة ليلتف جسده الصغير بالقماش الأبيض ويتوارى تحت الثرى حتى يأتى يوم القصاص ويقتص من هؤلاء الذين سلبوه روحه بإهمالهم، ويبقى السؤال دم محمد في رقبة من؟.