احتفلت مصر حكومة وشعباً في الثامن عشر من يونيو بعيد الجلاء، والذى يجسد إحياء ذكرى خروج آخر جندى احتلال بريطانى من مصر عام 1956. .ويتعين أن نشير هنا إلى أن توقيع اتفاقية الجلاء فى أكتوبر من عام 1954 لم يكن ليتحقق على الإطلاق دونما الدور الذى لعبته حرب الفدائيين فى منطقة القناة ضد معسكرات الجيش البريطانى، وهى حرب لم تحظ بما تستحقه من تغطية توثيقية وتأريخية وبحثية وسياسية وإعلامية، وقد دُرج على تسمية هذه الحرب فى الأدبيات السياسية المصرية الحديثة ب «حرب التحرير الوطنية». وكانت هذه الحرب امتداداً –من جهة التواصل التاريخى- لعمليات الفدائيين التى تلت مباشرة إلغاء معاهدة 1936 من جانب واحد بواسطة زعيم الوفد ورئيس الحكومة حينذاك مصطفى النحاس فى 8 أكتوبر 1951، وبدعم معنوى ضمنى –أو على الأقل بصمت الموافقة- من جانب حكومة الوفد بالرغم مما تعرضت له تلك الحكومة من ضغوط من جانب القصر الملكي والاحتلال البريطاني لفرض إيقاف هذه الحرب وتعقب الفدائيين. وحتى بعد سقوط حكومة الوفد فى 26 يناير 1952 عقب اندلاع حريق القاهرة، استمرت حرب الفدائيين دون انقطاع بالرغم من معوقات إضافية مثلتها سياسات حكومات الأقلية التى تولت الحكم فى مصر حتى 23 يوليو 1952. فقبل 23 يوليو 1952 كانت حرب الفدائيين تقاد أساساً بواسطة تنظيم الضباط الأحرار –السرى حينذاك- وضباط وطنيين آخرين مستقلين عن التنظيم، سواء من الجيش أو الشرطة، خاصة الضباط الذين شاركوا بالحرب فى فلسطين عام 1948، سواء ضمن المتطوعين الذين قادهم البطل أحمد عبد العزيز أو ضمن الجيش النظامى المصرى، وبالتالي تولدت لديهم خبرات قتالية. ولا يعنى ذلك إنكار دور المدنيين من مختلف أطياف الحركة الوطنية المصرية حينذاك، إلا أن هؤلاء المدنيين كانوا يحصلون على التسليح والتدريب من الضباط الذين لعبوا الدور القيادى فى هذه الحرب. أما عقب انتصار ثورة 23 يوليو 1952، فإن حرب التحرير الوطنية تحولت إلى أداة واعية فى يد حكومة الثورة التى وجهت حرب الفدائيين ووظفتها بما يخدم القضية الوطنية حسب مسار عملية التفاوض مع الحكومة البريطانية بشأن تفاصيل اتفاقية الجلاء. فبدلاً من العفوية النسبية وغياب القيادة المركزية فى حرب التحرير الوطنية قبل يوليو 1952، صارت قيادة الثورة تدير الحرب أولاً بواسطة عدد من قادة الضباط الأحرارالذين كان لهم دورهم فى هذه الحرب قبل يوليو 1952 مثل الراحلين كمال الدين حسين وكمال الدين رفعت ولطفى واكد ووجيه أباظة ومحمود عبد الناصر وغيرهم، ثم بعد ذلك عبر «فرعبريطانيا» بإدارة المخابرات العامة التى أنشئت عام 1953، وكان تنسيق الكفاح المسلح فى منطقة القناة أحد مهامها الرئيسية، بالإضافة إلى دور القيادة العامة للقوات المسلحة التى أمدت الفدائيين المصريين بالسلاح فى منطقة القناة عقب ثورة 23 يوليو. وعلى الجانب الآخر، فمن أهم نقاط التماثل بين حرب التحرير الوطنية قبل الثورة وبعدها كان التعاون والتنسيق الأمنى بين سلطات الاحتلال البريطانى من جهة وهيئة قناة السويس من جهة اخرى، بما فى ذلك تبادل المعلومات الاستخبارية وغير ذلك من أشكال التعاون، وهو ما مثل نقطة ضعف فى إحكام حلقة الحصار حول التواجد العسكرى البريطانى فى منطقة القناة. ولا شك أن هذا الدور لهيئة قناة السويس –فى ظل إدارتها الأجنبية- كان له أثره لاحقاً فى اتخاذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرار تأميم هيئة قناة السويس عام 1956 لتجاوز هذه الثغرة فى جدار الأمن القومى المصرى. وإذاعدنا للحديث عن الاستراتيجية التى اتبعتها قيادة الثورة ممثلة فى الرئيس الراحل عبد الناصر فى توظيف عمليات المقاومة، فنقول إن الرئيس الراحل كان يوجه فرع بريطانيا بإدارة المخابرات العامة لتكثيف العمليات العسكرية ضد الوجود العسكرى البريطانى بمنطقة القناة كلما شعر بتقاعس بريطانى فى عملية التفاوض مع الحكومة المصرية بشأن اتفاقية الجلاء، سواء كان هذا التقاعس عبر تغيب عن جلسات التفاوض أو المطالبة بتأجيلها لفترات زمنية ممتدة وغير محددة، أو أخذ شكل تبنى مواقف جامدة وغير مرنة لا تستجيب للمطالب المصرية بشأن ما يجب أن تشمله اتفاقية الجلاء. ولايجب أن تمر هذه المناسبة دون توجيه تحية لأبطال حرب التحرير الوطنية الذين أدت فدائيتهم ووطنيتهم وتضحياتهم إلى تحرير الوطن، وفى مقدمتهم زكريا محى الدين وكمال الدين رفعت ومحمود عبد الناصر وأحمد لطفى واكد وعاطف عبده سعد وعمر لطفى وعبد المجيد محمد فريد ومحمد عبد الفتاح أبو الفضل وسعد عفرة وسمير غانم ومحمد غانم ومحمود سامى حافظ ومحمود سليمان. لمزيد من مقالات د.وليد محمود عبد الناصر