عرفت د.سعيد توفيق من خلال إسهاماته النقدية والأكاديمية قبل أن أعرفه في منصبه الرسمي أمينا عاما للمجلس الأعلي للثقافة, لهذا كان توقعي أن يشهد المجلس خلال رئاسته له تطورا. وعبر ساعة ونصف الساعة من الحوار مع د.سعيد توفيق تحدث الرجل عن أمور كثيرة تخص الشأن الثقافي العام, حيث كشف عدم رضاه عن قانون جوائز الدولة الحالي, وشدد علي أن لا ديمقراطية حقيقة ما لم تستند إلي ثقافة, وتطرق الحوار إلي المنهج الجمالي في النقد الأدبي وضرورة أن يتسلح الناقد بدراسة علم الجمال قبل ممارسة العملية النقدية.. { لكم رحلة تزيد علي ثلاثة عقود في العمل الفكري والثقافي, فما خلاصة ما خرجتم به؟ {{ منذ بداية تكويني العلمي كنت أطمح في ألا أكون مجرد متخصص أو باحث أكاديمي في فرع أو آخر من فروع الفلسفة, وإنما في أن تتشكل لدي رؤية فلسفية خاصة تسهم في مجالات الفكر والثقافة والفن, والعلوم الإنسانية علي اتساعها. وذلك طموح بالغ لم يكن من الممكن أن يتشكل إلا علي مهل, وقد تمخض هذا كله عن كتابات ودراسات تكشف عن رؤيتي الفلسفية, سواء في مجال مناهج البحث في العلوم الإنسانية, أو في الدراسات النظرية في علم الجمال وتطبيقاتها في مجال النقد الأدبي والفني عموما (خاصة في الشعر والموسيقي والفنون التشكيلية), أو حتي في مجال الكتابة الإبداعية عبر النوعية( أعني الذي يمتزج فيها الفلسفي بالأدبي والجمالي). { كيف أثر تخصصك في علم الجمال فيما أنتجت من دراسات نقدية؟ {{ علم الجمال في أحد معانيه العميقة هو نقد النقد, أي نقد الأسس والمبادئ التي يمكن أن يستند إليها الناقد التطبيقي: فالنظريات الجمالية في جانب منها تدرس دراسة نقدية المبادئ التي يقوم عليها النقد التطبيقي; ولذلك فإن دراسة النظريات الجمالية ليست ترفا بالنسبة للناقد التطبيقي, بل أمرا لازما. علي أن الأمر لا يتوقف عند ذلك وحسب, بل يلزم أيضا أن يكون لدي الناقد حس فني وذائقة أدبية. ودون تواضع زائف, فإنني أزعم أن هذا هو ما أتاح لي أن أقدم بعضا من الدراسات النقدية لا تشبه غيرها من الدراسات الشائعة في واقعنا الثقافي, وتشكل علي قلتها تيارا نقديا فلسفيا تأويليا قد يلتفت إليه المتخصصون يوما ما. { وكيف تري علاقة الفلسفة بالأدب؟ {{ علاقة عضوية, بمعني أن كل أدب عظيم يكون مبطنا برؤية للحياة والعالم والوجود في مجمله. وليس معني ذلك أن الأديب يقدم لنا رؤية فلسفية نظرية كتلك التي نجدها في الكتابات الفلسفية, بل إنه يقدم لنا تلك الرؤية مجسدة في مواقف وأحداث وشخصيات من لحم ودم, وفي تفاصيل صغيرة من حياتنا تبدو أحيانا عابرة ولا نتوقف عندها. { حين توليتم مسئولية المجلس أعلنتم أن أولي أولوياتكم ايجاد جسور من التواصل بين المجلس والمثقفين, فماذا فعلتم لتحقيق ذلك؟ {{ منذ عقود طويلة كانت هناك علاقة من الريبة بين كثير من المثقفين وبين المجلس, الذي كان ينظر إليه باعتباره المؤسسة الرسمية لثقافة الدولة أو النظام الحاكم, وقد حاولنا مد جسور الثقة بين ما يسمي بالثقافة غير الرسمية ومؤسسة الثقافة الرسمية, بحيث يكون المجلس بيتا للمثقفين. ولذلك فقد فتحنا هذا البيت لكل فصائل المثقفين وللجمعيات الثقافية الأهلية, ومنها علي سبيل المثال جمعية النوبة, وجمعية المحافظة علي التراث المصري, وجماعة إشراقة التي تضم أجيالا من الشباب المتطوع في ممارسة النشاط الثقافي والذي يحتاج إلي دعم حقيقي. { لا شك أن ثقافة ماقبل25 يناير تختلف في توجهاتها عن ثقافة ما بعد الثورة, فالثورات لا تكتمل ما لم يصاحبها تغيير في الوعي والثقافة, فهل أعددتم استراتيجية لتحقيق هذا الهدف؟ {{ قلت وأقول دائما إن العالم لا يتغير بذاته, وإنما الوعي هو الذي يغير العالم; ولذلك فإن حياة الناس لن تتغير تغيرا حقيقيا إلا من خلال الثقافة, التي تشكل وعيهم العلمي والديني والأخلاقي والجمالي والسياسي. وأحب أن أوضح هنا أن وزارة الثقافة ليست هي المنوط بها وحدها تشكيل هذا الوعي, وإنما يسهم في هذا بشكل أساسي التعليم (الذي بلغ في بلادنا أقصي درجات الانحطاط), والإعلام (الذي لا يقوم بدوره الثقافي), والخطاب الديني السائد في الصحف والشارع وفي المساجد (وهو خطاب في أغلبه يقوم بتزييف الوعي الديني)..إلخ. أما عن دور المجلس في هذا الصدد, فيتمثل في رسم السياسات الثقافية التي ينبغي أن تربط بين الأنشطة الثقافية لقطاعات وزارة الثقافة, وهو ما نعمل عليه الآن من خلال إعادة النظر في قانون المجلس ولائحته, والذي نتمني أن يري النور قريبا. { كنا نتوقع أن يتمخض مؤتمر الثورة والثقافة الذي نظم مؤخرا عن قرارات وتحركات تثري الساحة, لكننا فوجئنا بمشاركات ضحلة لا تحقق المرجو, فما تبريرك؟ {{ هذا الحكم فيه ظلم وإجحاف للجهود التي بذلتها بمشاركة الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة السابق مع بقية الزملاء والعاملين. فالمشاركات لم تكن ضحلة كما تقول, بل كانت مشاركات جادة لأطياف متنوعة من المساهمين من مصر ومن دول أجنبية وعربية لهم قامات رفيعة, وكان منهم الشيوخ والشباب من الأكاديميين, ومنهم المناضلون والثوار الذين ينتمون إلي ميادين التحرير في القاهرة والإسكندرية, ومنهم الفنانون والأدباء الذين ساهموا بإبداعاتهم في الثورة وشهاداتهم عليها. وكان الحضور طاغيا حتي آخر جلسة, رغم أن المؤتمر قد انعقد في فترة الأعياد الرسمية للدولة لظروف اضطرارية. كما أنه قد واكب المؤتمر إصدار ستة عشر كتابا عن الثورة في زمن قياسي, تتناول الثورة من منظورات السياسة والاقتصاد والفن والأدب, خاصة الشعر. وكل هذا قد جعل للمؤتمر أصداء واسعة غطتها كثير من الصحف والقنوات التليفزيونية. يا أخي لا تبخسوا الناس أشياءها إن كنتم لا تعلمون! { كلام كثير قيل عن إعادة تشكيل المجلس ولجانه, لكن التغيير المنشود لم يحدث, ولا يزال المجلس يدار مثلما كان أيام الوزير فاروق حسني, ولا تزال الخلافات تعصف به, وماحدث من استقالات في لجنة الشعر علي سبيل المثال لهو دليل علي استمرار الانقسامات.. ماذا تقولون؟ {{ تشكيل المجلس الحالي قائم بمقتضي القانون حتي نهاية الدورة الحالية. أما لجان المجلس فقد تم تشكيلها وفقا لسياسة خاطئة لم تلتزم بالقانون الحالي, وسعت إلي اتخاذ آلية معيبة تصورت أنها مواكبة للثورة ومعبرة عنها, وهي آلية انتخاب أعضاء اللجان من خلال التصويت, الذي تم أجراؤه في الجهات المعنية التي تمت مخاطبتها: كالأقسام العلمية في الجامعات, واتحاد الكتاب, وأتيليه القاهرة, وغير ذلك. إن الخطأ الذي وقعت فيه هذه الآلية هو أنها تصورت أن مواكبة الثورة يعني إجراء الانتخابات من خلال التصويت في كل أمر, بما في ذلك أمر الثقافة, وهو ما جري أيضا في أمر الانتخابات الجامعية من غير ضوابط أو شروط. ومكمن الخطأ هنا أن أمور العلم والثقافة لا ينبغي أن تخضع لمبدأ الانتخاب بالتصويت; لأن هذا من شأنه أن يفسح المجال لما يسمي ب التربيطات, بل للمؤامرات الخسيسة أحيانا. وليس هكذا تدار أمور العلم والثقافة; حيث الأولوية. ولهذا فإننا نعكف الآن علي وضع آلية جديدة تراعي ضوابط ومعايير تلك القيمة علي مستوي الأجيال, وعلي مستوي التنوع الجغرافي. { ماذا بإمكانك أن تفعل بخصوص جوائز الدولة لتكون أعدل وأنزه, فهناك كلام كثير يقال كل عام عن التربيطات المهيمنة عليها, ومنحها لغير المستحقين؟ {{ حتي هذه المسألة مرتبطة بتعديل القانون الذي يتيح لنا تعديل اللائحة: فالقانون الحالي يسمح بتصعيد كل الأسماء المرشحة للتصويت عليها من أعضاء المجلس; وبالتالي فإنه يتيح لكثير من غير المتخصصين أن يصوتوا علي بعض المتخصصين في فرع ما, وهو أمر معيب يتيح المجال لتدخل الأهواء والتوصيات من أجل فوز مرشح بعينه. والأصح كما هو الأمر المعمول به في كافة الجوائز العالمية هو ألا يقوم بترشيح المتخصص في فرع ما إلا أهل الاختصاص. ونظرا لأن تعديل القانون لم يتم حتي الآن, فلم يكن أمامي سوي أن أقدم حلا جزئيا يقوم علي التوسع في أعضاء لجان الفحص من المتخصصين, علي أن يقوموا بإعداد قوائم قصيرة يمكن اعتبارها استرشادية, بحيث يستأنس بها أعضاء المجلس الذين تعرض عليهم تلك القوائم بالإضافة إلي مجمل أسماء المرشحين (كما تقضي بذلك اللائحة المعمول بها حاليا). { جارسيا ماركيز له عبارة شهيرة هي: لكل كاتب حادث مرور يحوله من شخص عادي إلي كاتب.. فما حادث المرور في حياتك؟ {{ لا أوافق علي هذه العبارة التي لا يمكن أن يتحقق معناها إلا في حالات استثنائية نادرة, فالأصل أن كل كاتب- بل كل إنسان- لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال جملة من الحوادث هي التي صنعت تاريخه, وشكلت علامات في شخصيته تبدو بمثابة أخاديد عميقة يصعب محوها. وهذه الأحداث تبدو منصهرة في شخصيته, بحيث لا يستطيع أن يحدد علي وجه الدقة أيا منها قد ساهم في تشكيل شخصيته ككاتب أو حتي كموجود بشري. وهذا يصدق علي مستوي الأفراد مثلما يصدق علي مستوي الشعوب والأمم!