ليست دول إفريقيا الفقيرة مثل موريتانيا هي وحدها التي مازال يرزح فيها بشر تحت نير العبودية في القرن الحادي والعشرين، وإنما تفوقت عليها دول لها وزنها الاقتصادي والعلمي والعسكري مثل الهند والصين وكوريا الشمالية وباكستان وفقاً لتقرير مؤسسة ووك فري (سِر حراً) الأسترالية للتوعية بأشكال العبودية المعاصرة في الوقت الذي أكدت فيه الأممالمتحدة أن الفقر والتمييز والاستعباد الاجتماعي أدت إلي تضاعف العبودية في زماننا،بل إن العدد المُعلن للعبيد (45٫8 مليون) ربما يكون أقل بكثير من عددهم الحقيقي. التقرير أوضح أن المستعبدين في العالم يتركزون في الهند (18٫35 مليون) والصين (3٫39 مليون) وباكستان (2,13 مليون) وبنجلاديش (1٫53 مليون) وأوزبكستان (1٫23 مليون) واحتلت كوريا الشمالية الصدارة بنسبتهم إلي عدد السكان (4٫37%) حيث تستعبد واحداً من كل 20، وذكر أن من مظاهر العبودية الحديثة استعباد العمال لتسديد ديون ودفع النساء إلي بيوت الدعارة أو العمل بالإكراه كخادمات في البيوت وأن أشكال العبودية المعاصرة تتنوع بين تهريب البشر والدعارة والعمالة القسرية وتجنيد الأطفال واستغلالهم في الاتجار بالمخدرات. استند تقرير مؤشر العبودية الشامل 2016 إلي بيانات تم جمعها خلال 42 ألف مقابلة ب 53 لغة في 25 دولة يسكنها 44% من سكان العالم بهدف تحديد عدد المستعبدين وكيفية تعامل الحكومات مع مشكلتهم، وذكر أن عدد الذين يندرجون تحت ظاهرة العبودية زاد 10 ملايين في الفترة بين عامي 2014 و 2016 وانتقد ضعف رد الفعل الحكومي عليها في دول مثل إيران والصين وهونج كونج، مشيراً إلي أن كوريا الشمالية هي الوحيدة في العالم التي لم تجرِّم أنواع العبودية المعاصرة. وإذا سلطنا الضوء علي هذه المشكلة في إفريقيا نجد أن دولاً عديدة مازالت العبودية قائمة فيها رغم تحريمها وتجريمها بالقوانين بسبب الفقر والبؤس والعادات التي تعود جذورها إلي مئات السنين والتفاوت الواسع بين القبائل والعرقيات في الغني والفقر، فالعبودية موجودة في دول مثل موريتانيا التي عجزت حكوماتها المتتابعة عن القضاء عليها رغم ترسانة القوانين التي أصدرتها منذ 1961، ونيجيريا رغم إقرار برلمانها قانوناً عام 2003 يحرِّم الرق،وبوركينا فاسو التي ناقشت حكومتها مظاهر المشكلة وآثارها في يوليو 2005،وتنقسم قبائل كبيرة مثل الفُلَّان المنتشرة في غرب إفريقيا إلي طبقة النبلاء أصحاب الثروة والعلم والنفوذين الديني والعسكري،والعبيد والرعاة من الفئات المهمشة، وتظهر المشكلة بوضوح في موريتانيا التي شهدت حركات مثل (نجدة العبيد) و(الحُر) و(إيرا) للدفاع عن حقوق العبيد معتمدةً علي العمل الحقوقي وسط مخاوف من ظهور حركات أكثر تطرفاً تشكل خطراً علي أمن واستقرار البلاد إذا بقيت المشكلة بلا حل. لكن الفشل في القضاء علي العبودية في موريتانيا لا يعود فقط إلي عدم جدية الحكومات في مساعيها واكتفائها بإصدار القوانين دون بذل جهود حقيقية لتطبيقها، وإنما أيضاً إلي تغلغل الظاهرة في النسيج الاجتماعي لشعب لا توجد فيه طبقة وسطي وينقسم بين أصحاب الثراء الفاحش وذوي الفقر المدقع، هذا البؤس جعل الكثيرين من العبيد يرضون بأوضاعهم وعدم المخاطرة بترك أسيادهم الذين اعتادوا أن يجدوا لديهم ولو الحد الأدني من المأكل والملبس والمأوي بدلاً من الانسياق وراء شعارات الحرية ثم يُفاجأون بعدم اهتمام من الحكومة أو بعجزها عن توفير المسكن وفرص العمل التي تتيح لهم حياة كريمة،كما أن هناك من أصحاب المصلحة في استمرار العبودية مَن يرون أن حل مشكلة الحرَّاطين (العبيد) يضر بمصالح شرائح المجتمع الأخري. المدافعون عن حقوق العبيد الموريتانيين يقولون إنهم يعيشون في بؤس وشقاء بسبب استمرار الجهل والفقر المُدقع والاستعباد وطالبوا بإنصافهم بمنحهم الأولوية في التوظيف والتعليم، وتولي المناصب العليا وباستخدام نظام تمويل المشروعات الصغيرة في تحسين مستواهم المعيشي،وتم تنظيم مظاهرات ومسيرات تطالب بإحياء الأمل و بالمساواة وإنهاء ما وصفوه بالتهميش، وطالب البعض بالوجود الدائم في الشارع مع الحراطين والوقوف معهم فيما يتعرضون له من ظلم يومي حتي يمكن حل المشكلة وتجاوز آثارها، وردَّت الحكومات المتتابعة بإصدار قوانين في أعوام 1961 و1981 و2005 و2007 لتجريم العبودية والاتجار في البشر وقررت إنشاء ثلاث محاكم جنائية متخصصة في محاربة العبودية بشمال وشرق وجنوب البلاد وتم بالفعل افتتاح إحداها، كما قالت إنها نفذت برامج تنموية لمصلحتهم وتعمل للقضاء علي آثارها. لكن إنكار الرئيس محمد ولد عبدالعزيز وجود العبودية في بلاده وانتقاده السلوك الاجتماعي لشريحة الحراطين بقوله إن تكاثرها يعوق جهود انتشالها من الفقر والأمية أغضب المدافعين عن حقوقها وجعلهم يطالبونه بالاعتذار. المشكلة دفعت فيليب أليستون مقرر الأممالمتحدة الخاص بالفقر وحقوق الإنسان للتحذير في مايو الماضي من وقوع اضطرابات في موريتانيا إذا لم يتم إعادة توزيع الثروة بالعدل بين كل فئات المجتمع. مشيراً إلي ما وصفه بتغييب ممنهج لشريحة الحرَّاطين والموريتانيين الأفارقة عن مناصب القوة الحقيقية وإقصائهم المستمر عن جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية قائلاً إنهم يشكلون معاً ثلثي السكان، ومما يستدعي أخذ التحذير بجدية أن هناك مَن يري حل المشكلة بثورة دموية. لمزيد من مقالات عطيه عيسوى