أسماه طه حسين القصير الأفوكاتو, واتخذه مستشارا تشكيليا له!, واستعان به يحيي حقي لمساعدة زوجته في فن الرسم بالماء, وشجعه علي نشر حافة الليل باعتبارها رواية كاملة الأوصاف. وحين صدرت قال غالي شكري إنها ستكتسب زخمها في زمن لاحق لأنها سابقة لعصرها. وحفظ عليه نجيب محفوظ قدره كمبدع في كل المرات التي ذكر فيها أمامه. ومن يقرأ أعماله اليوم يدرك صحة تلك الآراء في شخصه وأدبه. فمنذ بداياته بحث عن الجدة وسط مفاهيم مشدودة إلي الماضي, ورسم لوحاته بنفس أدبي, ولون أفكاره علي بالتة الخيال, ودارت غالبيتها حول الفن التشكيلي والمراسم بما كانت تحويه من تداخل عجيب بين الموديلات الآتيات بعفويتهن من أحياء الفقر وبين مزالق الجدل المرهق, ومحاولات الوصول بالإبداع إلي آفاق الحرية الرحبة. حلق وحيدا بمنأي عن كافة الأسراب, حتي وارته غمامات الحياء بعيدا عن المشهد. مسبحته الآن بلغت ستة وثمانين عاما, تزين عقده التاسع بحبات الحكمة وصمت العارفين, وحماس لافت للكتابة, وقرار حديث بالعودة لرسم البورتريه, بجانب انشغاله بأحوالنا العامة, وشغفه بتداعيات ثورة يناير المجيدة, التي يتحدث عنها كشاب عاش التحرير مترقبا تنحي الدكتاتور. وسط هذا يستحي من التحدث عن حياته الخاصة, كاظما أوجاع المرض, مغالبا متاعب الشيخوخة, متناسيا مرارة نسيانه مع أنها بلغت الحلقوم. كيف يمكن إهمال مبدع موهوب أدبيا وتشكيليا لكل هذا الوقت؟ وما سر الفارق الملحوظ بين تحققك الإبداعي, واختفائك إعلاميا؟ وبالرغم من تنبه النقد لأعمالك الجيدة؟ هل كان حياؤك الطبيعي هو الذي جنبك المزاحمة؟ أم ثمة عوامل أخري لا نعرفها؟ من عجب أن يجئ سؤالك هذا في صميم انشغالي الآن بالكتابة عن إهمال المبدع اجتماعيا واختفائه إعلاميا, فلو وضعنا هذا في موازين السلب والإيجاب لكان كما صوره العميد طه حسين بقوله ويل للذين يعملون من الذين لا يعملون, وتنوع الصور السلبية لوأد الإبداع ومطاردة المبدع تجعل المخربين يظنون أنه مهما تحققت ذات الفنان ثوريا وإنسانيا ستختفي في مهاوي الاحباط والإهمال, وحالة عدم الانتشار إعلاميا هذه تنشط حالة الظنة التي سماها النبي( صلي الله عليه وسلم): أخبث الحديث. أفكار روايتك حافة الليل تبدو بالقياس لزمن كتابتها(1948) لشخص أكبر منك سنا وأحكم, فهل ما زلت تعتنق ما كنت تعتقد به في شرخ الشباب؟ هذه مقارنة بين قرون وليست مجرد حقب زمنية! ولما كانت فطرة الله في خلقه النمو في الجسم والاستنارة في العقل فقد أنعم الله علي بهاتين النعمتين, ولهذا حذر الحكماء من التعصب لهذا أو ذاك من الفضائل خشية الزعازع المفاجئة, وأحكمهم من قال أن الحكمة هي التطور وتقدم الوعي إلي الأمام, والاستنارة بامتدادها. في حافة الليل تناولت جدلية العقيدة والفن, القضية الشائكة والمتكررة عبر تاريخ الانسانية, والآن تطرح نفسها مجددا بعد صعود التيارات الدينية, لكنك طرحتها في زمن كان خاليا منها نسبيا والرسام يستعين بالموديلات, فهل تشعر بخطر حقيقي علي الإبداع الآن؟ الجدل هنا ليس بمعناه المقارن, فالمقارنة بين الدين والفن خطأ, فالدين استنارة تشع من كل شيء حي( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) والنشاط الإبداعي أبجديا أو تشكيليا ينطلق في العالم المسموع والمرئي, ولايلغي أحدهما الآخر, لكنها فينومنولوجيا( أي ظواهر) الوجود تظهر في شمولها علي يد فنان متعين بآلة معينة ويخضع هذا بشريا لقوانين تتحكم في نشأة الأنواع والأجناس كما قال العلامة العربي بن مسكاويه قبل داروين ب700 عام: إذ التوالد يضيف النوعية والوراثة الحرفية والتقاليد الجمالية, ويظهر هذا واضحا في الحضارة الفرعونية إذ كان الفن تشكيليا في البيئة الصخرية, بينما كانت تغلب عليه الأبجدية والنطق في بيئة غير صخرية. وفي رواية حافة الليل درس معيد القسم الفن في أوروبا وبلغ أعلي مراحل التأهيل,وحين عاد حرق أعماله في احتفال مشهود بوصفها نزغا من الشيطان, وهذه ليست تجربة جاهلية في مجتمع يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر, بل انحراف وخلل مرضي اصاب إرادة الفنان نفسه. وشعوري بالخطر علي الفن الآن يأتي من نقص الدراسات السلوكية التي تنبع من الطاقة التشكيلية التي أعتبرها من الغرائز الفطرية للبشر, وممارستها تبدأ من سن مبكرة وترتبط بطلب الاستحسان وترقية الأداء والتطور, وتتنافس فيه الجماعة البشرية إقليميا وعالميا وترصد له الجوائز, ويعد المقصرين فيه من الشعوب المتخلفة. وأذكر هنا سقراط حين أمسك شمعة ودار بها حول تلاميذه وسألهم: ماذا يحدث كلما اتسعت دائرة الضوء؟, فأجابوا: تتسع مساحة الضوء, فقال: كلما اتسعت دائرة الضوء اتسعت دائرة الظلام, وعندما اتسعت دائرة البث التليفزيوني والتصوير الاليكتروني لدينا اتسعت دائرة الجرائم والوحشية التي تدل الإحصاءات أنها تزداد طرديا بزيادة التكنولوجيا. في عالمك الروائي تظهر النفس الانسانية في كافة تجلياتها, الأخلاقي والفني, الحلال والحرام, الراقي والشعبي, الوعي والبدائية, تباينات تجعل المشهد محتشدا بعلامات الاستفهام, فهل ما زلت تعتقد أن الفن أفضل السبل لمعالجة هذه الأضداد, وما دور العقيدة إزاءها بتقديرك؟ في عصر النهضة كان الصراع بين اللوجوس( الحقيقة في عقل الإله) والأيدوس( الحقيقة في عقل البشر) مستمرا وغامضا حتي اكتشف ديكارت الكوجيتو وهو الإنبعاث الروحي وعرفه بأنه فطرة الله في خلقه من خلال ذات الانسان, أو البديهة الغالبة علي كل معرفة أو الوجود بالقوة الذي يسبق الوجود بالفعل في العالم. والوجود الفطري يشبه الجاذبية التي تسبق حضورنا الثنائي في الفن والعلم, والجاذبية هنا أساس لوعينا الذهني أو العقلي, ولأن الفروض الدينية تلخص سعي الإنسان, ويستمد منها وجوده الأنطولوجي بوصفه آدميا( والأنطولوجيا هي مبحث الوجود في الفلسفة) ضمن أنواع متعددة من الكائنات الحية كما قال الرسول صلي الله عليه وسلم: أكرموا عمتكم النخلة, وهو وجود فني بالمعني الذاتي مقابل الوجود التاريخي, وهذا مايجعل الإنسان دائما في ثنائية, بين مايجنح إليه في حياته اليومية ومايتطلع إليه من أهداف شاملة, ولأن الإنسان خلق جهولا فهو بحاجة إلي الجلاء الروحي وهنا تبدو ممارسة الفن فريضة. تطور اللغة عندك من حافة الليل إلي رباعية خيري استوقفني, فكانت عندك في البدايات لغة خالية من التلكؤ, ومنضبطة, تمزج فيها العامية بالفصحي بوعي, وفي آخر أعمالك بدت منحوتة صوفية خالصة, وكأنها باتت هدفا لذاتها, فلأي حد تطور إحساسك باللغة؟ كلام آدم في حافة الليل بين الفصحي والعامية نتج عنه لغة ثالثة سردية هي التي تنطق بها( الأنا التشكيلية) لأن آدم فنان تشكيلي اجتذبه المرئي منذ طفولته بنماذجه من خطوط وأشكال وألوان, فنمت لغته البصرية وصارت مدخلا للبصيرة( الجوانية) التي تحفز الحكي. بدت حافة الليل في وقتها مغايرة للطرح الإبداعي الذي تعاطي مع الأحداث السياسية مباشرة, فبدت غريبة رغم انشغالها بقضايا مهمة, مثل اغتراب الانسان في وطنه, وجدلية الفن والدين, واتساق الفنان مع ذاته وأفكاره, وغير ذلك مما اتضح لنا أهميته الآن, فهل كنت تدرك ذلك الاختلاف حينها وراهنت علي اتضاح الأمور تدريجيا, وهل كان هو ما دفعك للاهتمام بالشأن العام لاحقا في القاهرة1951 أو المعركة ؟ استشعر الكتاب منذ الستينات أزمة البناء الروائي التقليدي, التي لم تكن في صميمها أزمة الحرفة, وكان مفهوم الكتابة ذاته في مأزق المعادلة التوفيقية للنهضة( التراث/ العصر), وفي وقت بالغ التبكير كان هناك من حاول أن يشق عصا الطاعة علي البنية الروائية التقليدية. حين نشرت حافة الليل عام1954 لم يستمع أحد إلي هذا الصوت الناشز وسط الاحتفاء السياسي بما سمي الواقعية, وكانت تلك الواقعية ذاتها صوتا جديدا تتواءم بنيته مع احتمالات البيئة الاجتماعية الثقافية الجديدة, لذلك سطعت رواية الأرض ل عبد الرحمن الشرقاوي في العام نفسه لأن بنيتها الداخلية لم تخرج بالذوق العام علي التقاليد المرعية في صياغة الزمن ونحت الشخصيات وتنميط اللغة وتكوين المواقف, الذي تغير هو الموضوع فحسب وهو الأمر نفسه الذي حدث قبل هذا التاريخ بعشر سنوات حين أصدر عادل كامل رواية مليم الأكبر, إذ كانت صوتا ناشزا في سياق البنية الرومانسية بعصرها, حتي علي نجيب محفوظ نفسه حين كان ينشر رواياته المسماة تاريخية, في كل عصر كتابة ترتاد المجهول لتحقيق بنية جمالية حديثة, لكن زحام الأصوات الأقل حداثة والأكثر انسجاما مع البنية الجمالية للتطور الاجتماعي يحجب صوتها. التماهي بين المبدع وشخوصه كثيرا ما نلاحظه, فكأنك آدم في حافة الليل, وغريب في القاهرة1951, ذلك الفنان التشكيلي والأديب المعذب, ليس بهمومه الشخصية فقط, بل قضايا محيطه ومجتمعه ككل. كم يكون هذا شاقا؟ ومتي يكون مفيدا؟ نلمس جميعا شقاء الانسان الذي تفرضه عليه حرية الاختيار فهو دائم التوتر بين ما يختاره من سلوك بين عدة أنواع من السلوك وما يختاره من مصير بين مصائر متدافعة, لذلك لا يدهش المرء إذا خرج البطل عن حدود القوة أو الفعل بتقمص ذات غير ذاته في عملية إبداعية تخفف ما يثقل عليه من تكرار المعايشة التي تتحول إلي عادات تجعل الحياة اليومية حملا ثقيلا يرزح تحته من دون انتماء حقيقي إلي حاضره أو بني جلدته, ولقد أطلق النقاد المحدثون علي هذه العملية تشظي الذات, كما أطلقوا تعبير الكاريزما علي الذات المتصلة التي تستهدف المقلدين والمتقمصين لصفاتها المهيمنة, وليس غريبا علي الفنان الذي ينشد التحرر لنفسه ولغيره من المواطنين أن يرفض أسلوب الهيمنة ويميل إلي أسلوب التقمص. بطلك غريب في القاهرة1951 بدا هائما منفصلا عن واقعه بشكل ما, ولم يجد نفسه إلا في المظاهرات حيث:.. هذا الهدير الكظيم هو سره الذي كان يجهله, ولا يعرف كنهه, وفهم هكذا المعني الذي عجز عن فهمه وحيدا.. والحقيقة التي لا يعرفها أحد علي انفراد, كأن ثمة تطابق بين وصفك هذا وحال النخبة قبل ثورة يناير, كانوا يعانون الاحباط والانكفاء علي الذات مثل غريب, ثم أعادتهم الثورة إلي حيويتهم ووطنهم, ألا توافقني؟ حقا كان غريبا هائما مغيبا عن واقعه ضمن أفواج تعجز عن النمو الذي هو سنة الحياة والتطور, ولما كان الزمان يخفي في طياته ومراحله أنساق الارتقاء فهو يحمل في طياته أشكال تغير العقل الجمعي من خلال البناءات والمفاهيم العقلية والفنية, ولو كانت هذه البناءات لا تبرز بوضوح كاف في المجالات العلمية إلا أنها تسبق في الوعي فتبرز بوضوح في البناءات الفنية, وهكذا فإن بطل القاهرة1951 يكتشف السر الذي يجهله والحقيقة التي سلبت منه والانتماء الذي فصل عنه عندما رأي الأفواج واستمع إلي هدير الروح الثائرة للعقل الجمعي, لهذا نشهد اكتشاف السر الذي غيب عن النخبة بفعل الفساد, كما شهدناه بين الأفواج الغفيرة من الثوار مرة أخري في ثورة25 يناير) وتبين له ولنا سر مقولة قداسة البابا شنودة مصر ليست وطنا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا.