أسعار الذهب اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    انفجاران عنيفان يهزان صنعاء إثر قصف إسرائيلي استهدف محطة كهرباء    السعودية ترحب بقمة ألاسكا وتؤكد دعمها للحوار الدبلوماسي    الأرصاد تحذر من سقوط أمطار على هذه المدن    وفاة شاب صعقا بالكهرباء داخل منزله بالأقصر    طلاب الثانوية العامة يبدأون امتحان مادة اللغة الثانية    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    قوات الاحتلال تُضرم النار في منزل غربي جنين    "محاولة التخلص منه وصدمة والدته".. 15 صورة وأبرز المعلومات عن عائلة محمود الخطيب    القافلة السادسة عشرة.. شاحنات المساعدات تتدفق من مصر إلى قطاع غزة    هل شعر بقرب الأجل؟.. منشور عن الغرق لتيمور تيمور يصدم محبيه: «كنت حاسسها وموت شهيد»    خالد الغندور يكشف ردًا مفاجئًا من ناصر ماهر بشأن مركزه في الزمالك    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    عيار 21 الآن.. أسعار الذهب اليوم في مصر الأحد 17 أغسطس 2025 بعد خسارة 1.7% عالميًا    اليوم، البورصة المصرية تطلق رسميا أول تطبيق لها على الهواتف المحمولة    حياة كريمة.. 4 آبار مياه شرب تقضى على ضعفها بقرية الغريزات ونجوعها بسوهاج    السيسي يوجه بزيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية والصحة والتعليم    مشيرة إسماعيل تكشف كواليس تعاونها مع عادل إمام: «فنان ملتزم جدًا في عمله»    100 عام على ميلاد هدى سلطان ست الحسن    للتخلص من الملوثات التي لا تستطيع رؤيتها.. استشاري يوضح الطريق الصحيحة لتنظيف الأطعمة    صربيا تشتعل، متظاهرون يشعلون النار بالمباني الحكومية ومقر الحزب الحاكم في فالييفو (فيديو)    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 17 أغسطس 2025    مصرع سيدة وإصابة 9 آخرين فى حادث مرورى بين سيارة أجرة وتروسيكل بالإسكندرية    7 شهداء فى غارة على ساحة المستشفى المعمدانى بمدينة غزة    الأهلي يعلن تفاصيل إصابة محمد علي بن رمضان لاعب الفريق    10 صور لتصرف غريب من حسام عبد المجيد في مباراة الزمالك والمقاولون العرب    خروج يانيك فيريرا من مستشفى الدفاع الجوى بعد إجرائه بعض الفحوصات الطبية    وزير خارجية روسيا يبحث مع نظيريه التركي والمجري نتائج قمة ألاسكا    وكيل صحة سوهاج يصرف مكافأة تميز لطبيب وممرضة بوحدة طب الأسرة بروافع القصير    رويترز: المقترح الروسي يمنع أوكرانيا من الانضمام للناتو ويشترط اعتراف أمريكا بالسيادة على القرم    مصرع شابين وإصابة آخر في حادث انقلاب دراجة بخارية بأسوان    تدق ناقوس الخطر، دراسة تكشف تأثير تناول الباراسيتامول أثناء الحمل على الخلايا العصبية للأطفال    8 ورش فنية في مهرجان القاهرة التجريبي بينها فعاليات بالمحافظات    في تبادل إطلاق النيران.. مصرع تاجر مخدرات بقنا    رابط نتيجة تقليل الاغتراب.. موعد بدء تنسيق المرحلة الثالثة 2025 والكليات والمعاهد المتاحة فور اعتمادها    منافسة بنكية ساخنة على رسوم تقسيط المشتريات تزامنًا مع فصل الصيف    «بأمان».. مبادرات وطنية لتوعية الأهالي بمخاطر استخدام الأطفال للإنترنت    رئيس جامعة المنيا يبحث التعاون الأكاديمي مع المستشار الثقافي لسفارة البحرين    الداخلية تكشف حقيقة مشاجرة أمام قرية سياحية بمطروح    لأول مرة بجامعة المنيا.. إصدار 20 شهادة معايرة للأجهزة الطبية بمستشفى الكبد والجهاز الهضمي    رئيس الأوبرا: واجهنا انتقادات لتقليص أيام مهرجان القلعة.. مش بأيدينا وسامحونا عن أي تقصير    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    تعليق مثير فليك بعد فوز برشلونة على مايوركا    نجم الزمالك السابق: سنندم على إهدار النقاط.. ومن المبكر الحكم على فيريرا    «أوحش من كدا إيه؟».. خالد الغندور يعلق على أداء الزمالك أمام المقاولون    مي عمر على البحر ونسرين طافش بفستان قصير.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    كيف تتعاملين مع الصحة النفسية للطفل ومواجهة مشكلاتها ؟    «زي النهارده».. وفاة البابا كيرلس الخامس 17 أغسطس 1927    "عربي مكسر".. بودكاست على تليفزيون اليوم السابع مع باسم فؤاد.. فيديو    يسري جبر يوضح ضوابط أكل الصيد في ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم    عاوزه ألبس الحجاب ولكني مترددة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز إخراج الزكاة في بناء المساجد؟.. أمين الفتوى يجيب    حزن ودعوات| المئات يشيعون جثمان «شهيد العلم» في قنا    القائد العام للقوات المسلحة: المقاتل المصري أثبت جدارته لصون مقدرات الوطن وحماية حدوده    وزير الأوقاف: مسابقة "دولة التلاوة" لاكتشاف أصوات ذهبية تبهر العالم بتلاوة القرآن الكريم    الشيخ خالد الجندي: الإسلام دين شامل ينظم شؤون الدنيا والآخرة ولا يترك الإنسان للفوضى    الإصلاح والنهضة يواصل تلقي طلبات الترشح لعضوية مجلس النواب عبر استمارة إلكترونية    وزير الري يتابع موقف التعامل مع الأمطار التي تساقطت على جنوب سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عزازيل :رحلة البحث عن «ايتيكا» الذات
نشر في الواقع يوم 02 - 12 - 2011

مهداة إلى الشعب المصري الرائد، بمناسبة إبداعه لأيقونة ذاتيته الخاصة به، و انعتاقه من تلافيف ذوات الطغيان، والتهميش و الاقصاء.
بقلم : زهرة حمودان
ملخص الرواية
الرواية معطرة بضماخ الحرية، مشرعة الأبواب، نحو قراءات متعددة، تومض بمشاريع استقرائية ممكنة، مقياسها العقل وما اتسع، وشرطها المنهجي، احترام أنواره.
وكلمة « عزا زيل» تعني باللغة الآرامية القديمة « إبليس»، و تحكي قصة بطل وجد نفسه منخرطا في عالم اللاهوت لعوامل ذاتية و موضوعية، دون أن تفارقه حرقة الأسئلة، تلك الأسئلة التي غالبا ما تلقي بها مرجعياتنا، التي نولد ببعض أغلالها، على عاتق إبليس.
« هيبا « وهو بطل الرواية، يولد ليقتل أبوه، من قبل مغايريه في المعتقد، وتتزوج أمه أحد قتلة أبيه:
القتلة وثنيون، و الزمن زمن مسيحي بامتياز. يكفله عمه المسيحي الملتزم .يوجهه نحو الرهبنة. يستجيب «هيبا» لرغبة عمه دون أن يفارقه حلمه في دراسة الطب. تنقاد له الطريق نحو ذلك بكم غير قليل من المصاعب.يشد الرحال انطلاقا من موطنه أسيوط بصعيد مصر، وجهته العاصمة العلمية آنذاك الإسكندرية.
الإسكندرية ولادة جديدة للبطل، فيها ينزع عنه إزار «العفة» ،يحلق بأجنحة الرغبة ، يدخل جنة المرأة « أوكتافيا»، يرتكب خطايا المعرفة المحرمة، يقطف تفاحة الجنس، وينبهر بوجود» حضارة الآخر» من عمران و فكر و أسلوب عيش. نهمه للمعارف العقلية و الفلسفية الملازم له، يجبره على الاعتكاف بالمكتبة الموجودة في بيت « اوكتافيا» . بعد محطة الإسكندرية امتدت الرحلة العلمية للبطل بلباسه الكهنوتي مقتحما سماوات المعارف و التجارب. «هيبا» متعطش لكل شيء، فكان بذلك بمثابة السابح في بحر من المعرفة، المكتوي بنيران ختم الآخر، المنصهر تحت لهيب السؤال.
توطئة
توشح الكاتب بوشاح التاريخ، والتاريخ اللاهوتي على وجه الدقة، بحكم تخصصه الأكاديمي. ليقتحم حصن إشكالية الذات الإنسانية بكل مكوناتها الملموسة والمحسوسة. ربما كان تمويها ذكيا، للانفلات من ألغام فلسفية، قد تسلب العمل شرعيته الشعرية كما يدعي اغلب الدارسين.لذلك نجده يكتفي بالقليل من التاريخ، وأجزاء من فتراته، يعيد بنائها، يلحمها بالتفاصيل الخاصة التي يخلقها، ويسبغ عليها الملامح الدرامية التي ستتجلى على مدى بنائه السردي.
وعلى الرغم من كون» أرسطو « في كتابه « فن الشعر» لم يؤكد سوى على وحدة الفعل لكل بناء درامي، فان وحدتي الزمان و المكان اللذين استنبطهما النقاد الايطاليون بعد أرسطو،كانا حاضرين في رواية «عزازيل»، بصورة فاعلة، ومفصلية في توليد وحدات الحكي، وهما وظيفتان أساسيتان للتأطير التاريخي للأحداث وبهما توفر للرواية ذلك الكم غير القليل من الإيهام بالتوثيق، الذي مكن الكاتب من الإمساك بجدلية التخفي وراء قناع التاريخ والتجلي بعباءة العمل الأدبي، التي تخفي تحتها غلالة الفلسفة.
جدلية البداية
كان موضوع صراع البنيات، الذي حظي بنصيب وافر من التواجد، داخل المتن الحكائي للرواية، أول ما أثار حاستي النقدية، ، ثم استطعمت حلاوة النص الشعري لها، ووجدت نفسي تحت تأثير سحر لغوي، غير مستهلك ، و تراكيب شعرية، تأخذك لفضاءات تعبيرية تدخلك دهاليز الأزمنة الغابرة . وكان أكثر ما أغراني بالإبحار في هذا الملكوت تجليات «التناص»، وتمظهراته ذات الوظائف الفنية، وإحالاته الفكرية. ليتملكني سحر تلك الإحالات، يقتلعني من انبهاراتي الانطباعية رغم نواياها المنهجية، و يلقي بي في مرجل يغلي على نيران حطب الفكر والتفلسف، منذ أرسطو إلى هيغل وكانط ومفكري عصر الأنوار، مرورا بجدلية» داخل النص وخارجه» وصولا إلى « ذاتية فوكو».
يصنف رودلف (RUDOLF UNGER) المشكلات الفلسفية التي يعبر عنها الأدب كالتالي: «مشكلة المصير، وبها يعني الصلة بين الحرية والضرورة، الروح والطبيعة، المشكلة الدينية........، إلى أن يصل إلى مجموعة من المشاكل يدعوها مشكلة الإنسان، وبها تتعلق مسائل عن مفهوم الإنسان، وأيضا عن صلة الإنسان بالموت، ومفهوم الإنسان عن الحب.....الخ1
كل ما أجمله هذا النص من مواضيع الفلسفة التي أجاز النقاد للأدب أن يتناولها، مطروحة في نص رواية «عزازيل» بدون استثناء.و كتتويج يختار الكاتب من كل ذلك تيمة واحدة هي أيقونة موضوعات الرواية، تلك هي أيقونة « ذات الفرد»، التي تناولها الفيلسوف المعاصر ميشيل فوكو.
أطلق الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو مصطلح «فن الوجود» آخذا إياه من الايتيكا اليونانية، مفسرا إياه في مقدمة كتابه « تاريخ الجنسانية»، حيث يقول : «انه إذا كان ثمة تقنيات تدار عبرها الذات، فهناك كذلك جهد دءوب يشتغل على تزييح هذه التقنيات، ودفعها إلى الخروج من آلية الفعل والانفعال، والتحرر من هم مقاومة القمع، لتبلغ ذلك الحد التحولي الذي يقلب سلوك الذات من مجرد ممارسة آلية إلى تقنيات قادرة على إعادة إنتاج وجود الذات، باعتباره إبداعا فنيا هو نفسه.»2 .
شدني حدسي النقدي إن جاز لي قول ذلك إلى دائرة «ذات الفرد» ، و حلقات انبنائها، بعد تفكيكها من ربقة الذوات الأخرى، وعلاقة كل ذلك بالسلطة و المعرفة،حيث لم أتمكن التخلص من هيمنة الفكرة الفلسفية الوجودية المجسدة في « ذاتية هيبا» البطل .
وإذا كان «الأدب أفكار يلفها الشكل» كما يقال، فإن ما يشجع على المضي بربط الرواية بمفهوم «الذاتية» كتيمة إنسانية لصيقة بالوجود الفعلي للفرد، هو اكتشافنا في ثنايا البناء السردي لمنظومة من الأدوات الفنية، استخدمها الكاتب، ليؤسس بها شكلا روائيا، ينبني على متخيل يمتح من حقبة تاريخية معينة، يأبى الدخول في صفوف النمطية، ويلغي الحدود بين الواقع والمتخيل. و إذا كان الكاتب أخذ التاريخ كإطار لروايته، ، و كوظيفة تقنية تعطي للبناء السردي شرعية الوجود. فان ذلك كان توظيفا تقنيا وجماليا لخدمة «تيمة» الرواية الرئيسة وهي «ذاتية الإنسان»، في محاولة تطبيقية لمفهوم «الذاتية»،كبعد فلسفي، وكتجلي فني لانتظام عناصر تكوين الذات، من خلال رصد مراحل تجربة ذاتية للبطل «هيبا» ،
عبر وحدات حكيه، وتدرج عناصر تكوينها البنائي ، و هذا ما يجعلنا» نتمعن ونستمتع» 3
« هيبا» ورحلة التيه التقني
يطبق» فوكو» منهج التكوين « الذاتي « المرتكز على محورين أساسين هما:
1- محور الجينالوجيا.
2- محور الاركيولوجيا.
وذلك انطلاقا من حفريات تاريخ التقنيات المعروفة في الحضارات القديمة من أجل ممارسة الذات.
وجد «فوكو» أن الفيلسوف اليوناني يأمر بالتحكم في الذات كسلوك وليس كأخلاق، حيث السلوك الفلسفي عند اليونان لم يكن مجرد كبح لانفعالات الذات، من أجل التطابق مع فضائل أخلاقية معلقة في الفراغ، بل إن قيادة النفس ليس سوى ذلك الاهتمام الكلي بالذات، بعيدا عن «الأنا» التي أشاعتها الحضارة الصناعية. والبحث عن تقنيات «ذات» دون حروف التعريف(ال(، لا تخضع هنا للتحليل النفسي..» 4
إن نهج فوكو في الاهتمام بالذات، يعتمد على فكرة البناء والانبناء، لأن الأمر يتعلق بالكينونة، ولأن البعد الكينوني عنده هو الذي يكفل إمكانية تحرر الذات من شبكيات الأنظمة المعرفية/السلطوية.
و للوصول إلى اكتشاف شبكية الأنظمة هذه في ذاتية «هيبا «الطبيعية ،وهي ما يسميها فوكو بالجينالوجيا، و ذاتيته لمكتسبة التي يسميها بالاركيولوجيا. سنعتمد على مرافقته في رحلته، على ضوء خريطة فيلسوف آخر كان قد سبق فوكو الى الاهتمام بالذاتية أثناء دراسته اللاهوتية، وقد سلكنا مسالكها لارتباط البطل «هيبا» باللاهوت، وقد أوردها الدكتور محمد الشيخ في كتابه فلسفة الحداثة عند هيغل كالتالي:
مرحلة اكتشاف الذات الطبيعية /الحيوانية
مرحلة البحث عن القيم و الأخلاق
مرحلة الوعي الشقي
وهذه المراحل لها ارتباط فكري بمفهوم انبناء الذات عند « فوكو»، لهذا استأنسنا بها لبناء منظور استقرائي يرتكز على تتبع وقائع حرب البطل « هيبا « مع الذوات الخارجية، كي يستقل بذاته المتحررة.
أوكتافيا و مرحلة الذات الطبيعية/الحيوانية
يعتبر موقع البطل الذي أسند إليه الكاتب دور الراوي في الرواية، كراهب،مبرر كاف كي ندرك مع «فوكو» « أن المسيحية إنما كانت تعدم المتعة انسجاما مع منطلقها الايديولوجي الذي لا يرى للذات ثمة موقعا، لأن هذا الموقع في الأقل غير موجود باعتباره غير مشروع، «مجرد خطيئة»، وأن هذا الموقع يوفر له الشروط الذاتية والموضوعية لخوض غمار الهدم والبناء لذات دون « ال « كما يسميها فوكو.
وتمثل هذه المرحلة تجربة البطل « هيبا» مع «أوكتافيا» المرأة الوثنية المتحررة، وهو الراهب المتدين، وهي مرحلة ذات خصوصية تنكشف فيها ذاتية البطل : «في الثامنة من عمري ، كان يثيرني سفاد العصافير، و نكاح الدواب، فاتحت عمي في تزويجي بفتاة من أهل النوبة»5 .إنها جينالوجية الذات الطبيعية ، تستمد أوراق ثبوتيتها من خلال تزامن استرجاعها من قبل البطل، مع استرجاع ذكرى مقتل أبيه من قبل الوثنيين وزواج أمه من أحد قتلة أبيه، وتخمينه بإمكانية وفاة عمه. الكاتب هنا يمسك بلحظة استرجاع البطل لذاتيته الطبيعية، مع لحظة الإحساس بالحياة في وضعها الطبيعي/ الحيواني، مكنته منه ظروف ابتعاده عن رموز سلطة المعرفة لديه، الأب المقتول والعم المتوفى بعد أن ألقى به في وجه ترسانة اللاهوت، وزواج أمه، فرصة التحرر الجسدي هذه، وبداية الرحلة جغرافيا ومعرفيا،عرضته لنزع الرداء الأولي لذاته بعد أن وجد نفسه وسط بحر هادر، يخوض تجربته لأول مرة، وهي تجربة ذات بعدين بعد مادي ملموس، وبعد يحرك الإحساس، ويوقد شرارة العقل، يقول البطل وهو يسترجع هذه التجربة: «العوم في البحر سهل الماء يحملني ولا يجذبني تياره، مثلما كان النيل يفعل بي أيام الطفولة. ماء النيل عذب وطيني القاع، وهذا البحر مالح وكاشف لقاعه الرملي. كنت أقف وسط مائه الذي يغطي صدري، ويمس كتفي، ومع ذلك أرى قدمي، وأرى الرمال، وقطع الصخور النائمة على القاع. النيل إذا نزلناه ثار طين قاعه، وصار ماؤه عكرا، وقد تخفي العكرة التماسيح، أما البحر فلا أخطار فيه تهدد العائمين، وتبدد فرحة رجوعهم المؤقت إلى الماء الأصلي الذي بدأ منه العالم»6.
الفقرة ذات حمولة دلالية، عبرها سيكشف لنا الكاتب لفائف ذاتية البطل، وتناقضاتها، حيث مباشرة بعد هذا الاطمئنان الساذج للبحر، يجعله يتعرض للغرق، كي يبرز المكون الديني ، وهو المكون المعرفي الوحيد لديه لحد الآن ،يستنجد به داعيا : «يا يسوع كن معي الآن، وسأنذر لك كل حياتي» .7
هذا النذر الذي سينقضه مباشرة بعد نجاته ،عند ما يجد نفسه أمام امرأة هي الدنيا، فيكتشف الجانب المقصي من ذاته، ويبرز الجنس كإحدى تقنيات الذات الطبيعية المكتشفة من قبل «هيبا». لما خرج من البحر ناجيا :»حين خرجت من البحر ناجيا من الدوامة الغادرة، وكنت وحيدا جدا»8، وجد أمامه أوكتافيا « أشارت بذراعها اليسرى إلى أسفل بطني، وهي تقول باسمة: هل ستظل واقفا هكذا للآبد، البس جلبابك ليداري ما أنت فيه و الحق بي بسرعة»9. «ارتبكت ........مشيت إلى المغارة الصخرية القريبة، حيث غابت عن عيني المشدوهتين. أردت أن أعتذر لها عن كل شيء، وأشكرها ثم أستأذن منها، وأمضي بعيدا أجر ذيول خيبتي وفحشي»10.
تردد مملى على البطل من « ذات « ترسف في أغلال عمليات التنميط والتعليب التي ألبست «هيبا» رداء الكهنوت، وهي طبعا عمليات فقدت مفعوليتها أمام جينالوجية الذات ونداء الذات الطبيعية. يقول هيبا بهذا الصدد : «غالبت اشتهائي لها حتى انغلب» 11 . ومع خوض البطل غمار تجربته الذاتية هذه، يكون الكاتب قد دخل بنا دهاليز تكلسات آليات السلطة والمعرفة،كانت حرقة الأسئلة لا تفارق «هيبا» لحظات التطهير اليوناني، الذي وظفه الكاتب بحرفية شعرية، ذات جمالية ممتعة، ولغة إنسانية محملة بمعاني التغريب والندم، وهي تقنية اعتمدها الكاتب ترشح بالكثير من محور «إرادة المعرفة» لدى «فوكو» في إطار مشروعه غير المكتمل حول «تاريخ الجنسانية» . يقول مطاع صفدي شارحا الفكرة: «حين تتم النقلة من الأخلاق إلى السلوك، فلابد أن نصادف تلك الذوات الكثيرة، التي تحملها أجسادها، وتملأ علينا المكان. إنها تلك الذوات هي هذه الأجساد التي تسلك..تتحرك، تمارس أفراحها وأتراحها، وتعيش ليلها ونهارها، وتعصف بها المتغيرات، ومتغيراتها الأخص بها»12. هكذا بدت لنا ذاتية «هيبا» والمتغيرات تعصف بها وجحيم الذوات الأخرى يلاحقه. «ليلتنا كانت حافلة بالشهوات المحرمة التي أهبطت آدم من الجنة......ترى هل طرد الله آدم من الجنة لأنه حين عرف سر أنوثة حواء، وأدرك رجولته واختلافه عن الله، مع أنه خلقه على صورته»13. تكوين مسيحي ينفلت بين ثنايا عقل يريد الانعتاق، ومحنة جسد لم تستطع تجربته الحيوانية بعد أن تنفض عنه عوالق الكهنوت. في النص تبئيرات واسترجاعات للحظات المتعة مع أوكتافيا، تليها لحظات ذات إشراقات تصوفية رائعة، وهي ترصيعات إبداعية تساهم في صياغة النص الحكائي، وتسبغ عليه روح العصر الذي ينتمي إليه البطل وتأثيراتها عليه، كما تحيل على الرأي القائل «أن فن الرواية الحديث، قد سعى إلى تنظيم نفسه، تنظيما شعريا، أي «بشكل يعكس الذات» .وإذا اعتبرنا أن مرحلة لقاء «هيبا» بأوكتافيا كإحدى وحدات البناء السردي من جهة، وكمرحلة من مراحل تكوين «ذاتية» «هيبا «،نجد أن فرضية «روح العصر» التي أتى بها النقاد الألمان في العصور الأخيرة، قد وظفت من قبل الكاتب لتؤثث الفضاء التاريخي للرواية،و لتحمل الدلالات الفكرية التي من خلال تماهي البطل معها أو رفضه لها، يتحقق للكاتب تمرير «التيمة» الفلسفية التي يشتغل عليها، إلى القارئ. وهي تقنية تعتمد على إعادة تركيب روح الزمان من مختلف تموضعات العصر، من عمرانه، و ديانته ، إلى أزيائه، «إننا نتطلع إلى الشمول الكامن وراء كل الموضوعات، ونشرح الوقائع بروح الزمن هذه»14.
كانت أوكتافيا « هي بوابة مرور البطل نحو الحياة السائدة في عصره ،بكل عناصرها الفكرية والدينية والاقتصادية والاجتماعية، كما كانت تمثل ل «هيبا» صدمة الفكر المضاد بكل تداعياته، تقول له في إحدى حواراتها معه: «السيد الصقلي، يحب أن يقرأ لي النصوص القديمة، هو يهتم بتعليمي، جار لنا من المسيحيين الأغبياء، رآه يوما يقرأ لي في الحديقة، فقال: «الصقلي يسقي الأفعى سما» 15. وفي سياق اختلاف عقدي آخر يورد الكاتب الفقرة التالية: «عرفت أن سيدها الصقلي هذا، لا يؤمن بدين معين، وإنما يعتقد في صحة كل الأديان وجميع الآلهة، مادام ذلك يرتقي بالإنسان، همست وهي تضع رأسها على كتفي، بأن سيدها يؤكد دوما، أن الله يظهر للإنسان في كل موضع وزمان، بشكل مختلف، وأن تلك هي طبيعة الألوهية» 16. صفة أخرى ذات نفس حمولة اختلاف المعتقد الفكري و الديني جاءت على لسان البطل في حق التاجر الصقلي. الذي كانت أوكتافيا تعيش في كنفه، والذي يمثل الشخصية الروائية الغائبة اسميا/الحاضرة بفعلها المادي المجسد في البناء الفخم لمنزله، والتحف التي تؤثثه، وفي مكتبته الضخمة ،التي استفاد منها البطل في تصحيح بعض مدوناته، كما استفاد من ثقافته من خلال تعليقاته على حواشي بعض كتبه .وبأثرها المعنوي التي تعكس من خلاله الوجه الحضاري والفكري لبنية تتوارى خلف بنية تتجدر وتهيمن ، تلك هي بنية الديانة المسيحية بكل وسائل إنتاجها للمعرفة. يصف هيبا الرجل قائلا: «التاجر كان غنيا، محبا للفنون، ومخلصا لكلبه الميت» 17. وتحكي «أوكتافيا» عن الكلب الذي أشار إليه «هيبا»: «هذا الكلب الحزين المرسوم داخل الدائرة الكبيرة بقطع الرخام الصغيرة،
وبجواره إناء اللبن المسكوب، كان كلب السيد الصقلي الذي أراد أن يخلد كلبه الوفي في مرض وفاته، تقصد وفاة الكلب، فكلف الفنانين المهرة برسمه في بهو الدور الأرضي أمام السلم، ليراه كل يوم عند نزوله من الطابق الأعلى» 18.ثم تستطرد في إثارة موضوع منزلة الكلب لدى سيدها الصقلي ، وهو استرسال ذو إيحاء ، بالإضافة إلى ما قيل من قبل «أوكتافيا «و «هيبا «عن ثقافة الصقلي، وإيمانه بحرية المعتقد ،يثير في الذهن إمكانية وجود «تيمة» الطوطمية عند الحضارات القديمة، وبقايا تأثيرها في شخصية سيد أوكتافيا، جسدتها عملية تخليد صورة الكلب بتلك الطريقة الفنية، يعمق هذا المعنى لدى القارئ ما جاء على لسان» أوكتافيا «، سابغا على الموضوع صيغة القداسة «لم يفكر في تخليد زوجته المتوفاة، قبل الكلب بسنوات، إلا بتمثال، وحيد في غرفة نومه الفسيحة، بينما يخلد كلبه صاحب النظرة الحزينة، بهذه اللوحة البديعة......» 19، وهذا تمفصل محوري يمكن أن يكون موضوع بحث مستقل، فالكاتب صاحب تخصص أكاديمي في اللاهوت، وقد تبدى هذا على مدى المتن الروائي سواء على المستوى وحدات الحكي، أو على مستوى الصياغة اللغوية، أو على مستوى تقديم شكل فصول الرواية متلفعة بأردية البرديات، ملثمة ببراقع الرقوق.
نعود لبوابة «أوكتافيا» التي أفردت ل» هيبا» أجنحتها وحلقت في به في عوالم الحياة بكل مكوناتها المتحولة الممثلة لروح العصر من عمارة وأسلوب حياة، وأزياء، وثقافة، ومعتقدات سواء كانت دينية أو خرافية، تفتح شهية الاستقراء، والسفر في ثنايا إيحاءاتها. والثابتة التي يدور عليها محور بحثنا ونعني بها الذات الإنسانية». يبدو أن الكاتب اشتغل على فكرة إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض، التي بنت عليها الفلسفة الحديثة، مشروعها الفكري، وجعلت «الإنسان» محور بحثها، وأحكم تركيزه بأسلوب أكثر تركيزا على «ذاتية الإنسان» -كما قلنا سابقا- انطلاقا من صورته الفطرية، وعمليه مقاومتها لكل أشكال التطويع من قبل الآخر، ومحاولات الانسلاخ عن تلافيف الموروث والملقن، ثم رصد تطورها وتبلورها عبر تحولات إدراكية معرفية، وكل ذلك في إطار ميكانيزمات وتقنيات موحدة لا تخضع لزمان ومكان معينين.
«خرجت من الحوض الرخامي حذرا من الانزلاق، وغير حذر من انهياري إلى الهوة التي كنت مقبلا عليها ، مستسلما لها» 20 .كانت حوارات أوكتافيا الوثنية في كل مرة تخلخل معتقداته، وتهز كينونته من جذورها. وبالرغم من أن العنصر الديني كان قويا لدى «هيبا،» فان جينالوجية المعرفة لديه تجره نحو الاستمرار في الحفاظ على البقاء مع «أوكتافيا»، و المغامرة باخفاء هويته الكهنوتية عنها. أغوته مكتبة التاجر، إنها غواية من نوع آخر وظفها الكاتب لإبراز الاستعداد الفطري لدى «هيبا « ، للتخلي عن ما هو مكتسب عن طريق التلقين القسري، وإرادة دفينة لديه لاكتساب «ذاتيته الخاصة» عبر المعرفة العلمية (رغبة دراسة الطب)، والاطلاع على كتب الفلسفة والفكر. وهنا نجد أن تحولا معرفيا ستظهر إرهاصاته
أثناء تجربته مع» أوكتافيا» ، مكونا بذلك مرحلة هامة في مشروع «هيبا» الذاتي، ويتعلق الأمر بشخصية فكرية ثقافية منها سيأخذ اسم «هيبا» لأن هذا ليس باسمه الأصلي، ولعل الكاتب تعمد أن تكون الشخصية التي أسند لها دور البطولة في روايته لا اسم لها، تكريسا للفكرة التي استنتجناها منذ قراءتنا الأولى للرواية و هي أن شخصية هيبا تمثل كل إنسان يبحث عن «ذاتيته الخاصة». ويتعلق الأمر ب» هيباتيا» وتعني باليونانية « السامية» عالمة محاضرة، صديقة «أوكتافيا «سمع عنها منها، و حضر محاضرة لها رسخت مبادئ « الذاتية « عنده، وقد تكون لعبة الاسم يقصد بها المؤلف ذاتية البطل، فهو بعد أن رفض تغيير اسمه باسم لاهوتي يوناني، اختار بمحض إرادته اقتباس اسمه من اسم «هيباتيا» ذي الدلالة الأخلاقية. «....لن أسمح لقلبي أن يتعلق بها، ولن أختار لنفسي اسما وثنيا من لغة اليونان مهما كان.. لن أسمح أبدا بأن تسلخني من اسمي ومن لغتي، أرملة سكندرية عرفتها قبل يومين، مهما كانت جميلة ومتوقدة بالرغبة الوثنية الجامحة... لن أسمح ل» أوكتافيا» أن تجرفني....» 21. إنها أصوات سياط الذات الراسفة في أغلال الكهنوت. بالرغم من كونه قبل هذا المشهد الدرامي المقاوم، بيوم واحد، قد ارتعدت فرائصه لمجرد أنها أخذت ملابسه فخشي أن تكتشف ديانته» ..كان سيصدمها زي الرهبان والصليب الخشبي،، لكنني أدركتها في لحظة حاسمة، عاودتني الأفكار الرمادية و التساؤلات، إلى متى سيظل هذا الحال المخايل، وهذا النعيم المؤقت والخداع؟ لست مخادعا بطبعي، ولم أكذب طيلة عمري. فلماذا اضللها و أضل معها منذ رأيتها؟ الرب يراني ويراها، ولن يغفر لي ما أنا فيه، لن يجيرني من عقابه إلا توبتي ورحمته، لو شاء ذاك جزاء هذا... ماذا عن خطايا أوكتافيا؟ هل سيعاقبها الرب عليها، أم يتجاهلها لأنها وثنية لا تؤمن به؟ أتراه يعذب فقط المؤمنين...أظنه سيعف في النهاية عن الجميع لأنه رحيم» 22.بعد هذا المخاض المؤدي الى اكتشاف الذات الطبيعية، وثقل المعتقد المناقض لها ،يكون هيبا قد وضع قدمه على أولى خطوات الوعي بالذات. لكن الطريق لا زال شاقا و طويلا.
المراجع
1-»نظرية الأدب» تأليف:رينيه ويليك و أوستين وارين،ترجمة محي الدين مصطفى و د.حسام الخطيب.ط 1 عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر.
2- مجلة «العرب و الفكر العالمي»،العدد السابع،صيف 1989،مقال مطاع صفدي «ايتيكا فن الوجود» - ص5
3-»نظرية الأدب» ص 224،مرجع سابق
4- مجلة»العرب و الفكر العالمي» مرجع سابق
5-رواية « عزازيل» للكاتب يوسف زيدان ، ط2، عن دار الشروق ، ص77
6-رواية «عزازيل» مصدر سابق ،ص : 75
7-رواية «عزازيل» مصدر سابق ، ص: 77
8-رواية «عزازيل» مصدر سابق ، ص : 81
9-رواية «عزازيل» مصدر سابق ،ص: 81
10-رواية «عزازيل» مصدر سابق ، ص: 89
11-رواية «عزازيل» مصدر سابق ، ص: 89
12-مجلة»العرب و الفكر العالمي» مرجع سابق
13-رواية «عزازيل» مصدر سابق، ص: 90
14-كتاب «نظرية الأدب»، مصدر سابق ص124
15-رواية « عزازيل»،ص : 104
16-رواية « عزازيل»،ص :92
17-رواية « عزازيل»،ص :85
18-رواية « عزازيل»،ص :85
19-رواية « عزازيل»،ص :86
20-رواية « عزازيل»،ص :87
21-رواية « عزازيل»،ص :101
22-رواية « عزازيل»،ص :79


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.