تهافت بعض ممثلى المؤسسة الدينية القبطية فى مهاجمتهم الدكتور يوسف زيدان مؤلف رواية عزازيل، كما تبنى البعض مؤخراً صيغ التكفير التى تحجر على هذا الفكر الراقى بدلاً من السمو إليه، وكان من الأحرى بهم الارتقاء إلى مقابلة الكلمة بالكلمة والرأى بالرأى الآخر. وقد تعالت الأصوات فى البداية مُعتبرة هذه الرواية التاريخية اقتحاماً اقترفه كاتب مسلم ضد التراث المسيحى، بدلا من اعتباره إنتاجاً أدبياً شديد الحساسية لكاتب مصرى يتناول حقبة مهمة من تاريخ مصر. والحساسية هنا تكمن على الأخص فى اللغة التى استخدمها الراهب هَيبا عندما دون تجربته الإنسانية وما تملكه من نزعة مناجاة صوفية، مما يشعر القارئ بأنه أمام نص لصلاة قبطية طويلة أو أنه يستمع إلى أناشيد داود النبى. ويبدو أن هذا الهجوم على الرواية من حيث إنها إساءة للأقباط لم يؤت ثماره، مما دفع المهاجمين لاتخاذ استراتيجية جديدة فى الهجوم مستخدمين صيغ التكفير والزج بالأديب إلى تُهمة الإلحاد، وهى واحدة من أشد صور العنف الدينى الذى يجب تجريمه على كل المستويات؛ لأنه يخلق جواً من الإرهاب الفكرى كما يُمهد للعنف الجسدى وسفك الدماء. فحرىّ بالمُشرع المصرى أن يقف بكل حزم أمام ثقافة التكفير حيثما صدرت، وفى أى شيء صدرت، طالما أنها تنطوى على نوع ما من التحريض ضد جماعة أو فرد. وقد كانت قراءتى لعزازيل كعمل أدبى إبداعى يعالج فيما يعالج العنف الطائفى كظاهرة إنسانية لأن الرواية تتحدث عن الإنسان وسجونه الطائفية الضيقة وتمسكه المتفانى بما يعتقد أنه الحقيقة الوحيدة. تحمل الرواية إذاً رسالة ضد هذا العنف الطائفى كظاهرة بشرية ربما عرفتها مصر أول ما عرفتها فى عهد إخناتون وما تلاه من حرب أهلية وانهيار المملكة حتى استعاد كهنة آمون نفوذهم. وهى تلك الظاهرة التى مارسها الرومان الوثنيون ضد المسيحيين الأوائل فيما سُمى بعصر الشهداء، ثم انقلب الحال كما جاء بالرواية وكان الاضطهاد المسيحى للديانات الوثنية القديمة. ولما بدأت الخلافات اللاهوتية داخل العقيدة المسيحية نفسها وتسببت فى الانقسام الكنسى انتقل العنف الدينى بين أتباع الطوائف المختلفة، وهى ظاهرة عامة لا تخص المسيحية وحدها ولم تتوقف حتى يومنا هذا. ولكن المفارقة أنه كان من الأولى بمثقفى الأقباط بوصفهم أقلية دينية عند تلقيهم هذا العمل أن يبرزوا هذه الرسالة الكونية العامة ضد العنف الطائفى والتى تتضمنها الرواية، بدلا من الاستطراد فى مناقشات لاهوتية مضى عليها أكثر من خمسة عشر قرناً، وبدلا من اعتبار الرواية تعدياً وإهانة. فكما أن متشددى الفكر المتأسلم لا يتحملون إزاحة ستائر القدسية عن بعض فصول تاريخ المسلمين الإنسانى، فهكذا يفعل المتشددون الأقباط باسم الغيرة على الدين، وكأن كلاً من الفريقين لا يقبل أن يتوقف عن التحليق فى سموات المجد الذاتى الخالية من أى شوائب أو أخطاء إنسانية. فما يبدو لى أن هذه الرسالة الراقية التى تحملها الرواية لم تصل إلى مهاجميها من الأقباط، كما أنها على الجانب الآخر لم تصل أيضاً للكثير من مؤيديها من القراء المسلمين؛ حيث اعتُبرت مجرد تعرية لعيوب العقيدة المسيحية وكشف للجانب المظلم من التاريخ القبطى أو لسلوك بعض رجاله. أما رسالة هيبا الإنسانية التى دونها لنا على الرقائق لتصل إلينا بعد قرون، فيبدو أنها لم تزل حبيسة ذلك الصندوق الخشبى القديم الذى اختفى زمناً وراء أطلال الدير العتيق بالقرب من حلب، أو أن عزازيل قد ابتلعها وهى فى طريقها إلى القارئ. والسبب لا يكمن فى الرواية ولا فى المؤلف بل فى أن القارئ غير مهيأ لاستقبالها، لأنه منغلق على نفسه، غارق فى النرجسية وفى الدفاع عن حقائقه الثابتة. وما رآه هيبا فى شوارع الإسكندرية لا يختلف كثيراً عما نراه ونسمعه اليوم من موجات التكفير، وفى قضية تكفير القمنى حاليا بعد استحقاقه جائزة الدولة التقديرية خير دليل. والمثير من الناحية الأدبية هو ما قد سبق أن عبر عنه أستاذ الأدب الأمريكى جرين بلات بالعلاقة بين النص الفنى الخيالى والواقع، حيث إن الأدب لا يعبر فقط عن تجربة التفاعل مع الواقع، وإنما يمكنه بالفعل أن يغير فيه، أى أن النص الجمالى يمكنه أن يمد يده إلى الواقع مغيراً فيه، مشاركاً فى صناعة التاريخ. وهكذا نرى بعد تلقى الرواية أن العنف الدينى الذى يعالجه النص الأدبى يتم إعادة صناعته ضد كاتب الرواية نفسه!