بصورة من الأقمار الصناعية، خبير يكشف كيف ردت مصر على إثيوبيا بقرار يعلن لأول مرة؟    تنفيذ 3199 مشروعًا ب192 قرية فى المرحلة الأولى من حياة كريمة بالمنيا    قد تشعل المنطقة بالكامل، إسرائيل تستعد لهجوم واسع النطاق على إيران ولبنان وغزة    اليوم، "مفاوضات خماسية" في جنيف لبحث خطة ترامب للسلام بأوكرانيا    التعهد بزيادة الأموال للدول المتضررة من تغير المناخ في قمة البرازيل    بدأت "بدري بدري" وازدادت خطورتها، تحذير شديد من الأرصاد بشأن الشبورة الكثيفة    الفن اللي كان، ميادة الحناوي تتألق في حفلها ببيروت برشاقة "العشرينيات" (فيديو)    تعرف على موعد امتحانات منتصف العام الدراسى بالجامعات والمعاهد    بقطعة بديلة، وزير الرياضة يلمح إلى حل أزمة أرض الزمالك (فيديو)    وزير الري: مصر تتخذ جميع التدابير اللازمة لضمان حقوقها المائية في نهر النيل    استشهاد 24 فلسطينيا في غارات إسرائيلية على غزة    استطلاع رأي: شعبية ماكرون تواصل التراجع بسبب موقفه من أوكرانيا    كمال أبو رية: مش بفكر أتجوز تاني.. بحب أسافر وألعب رياضة    موعد مباراة الأهلى مع الإسماعيلى فى دورى نايل    طقس اليوم.. توقعات بسقوط أمطار فى هذه المناطق وتحذير عاجل للأرصاد    أبرزهم الزمالك والمصري وآرسنال ضد توتنهام.. مواعيد مباريات اليوم الأحد 23 - 11- 2025 والقنوات الناقلة    فوربس: انخفاض ثروة ترامب 1.1 مليار دولار وتراجعه للمرتبة 595 في قائمة أغنياء العالم    حسين ياسر المحمدي: تكريم محمد صبري أقل ما نقدمه.. ووجود أبنائه في الزمالك أمر طبيعي    ثلاث جولات من الرعب.. مشاجرة تنتهي بمقتل "أبوستة" بطلق ناري في شبرا الخيمة    برواتب مجزية وتأمينات.. «العمل» تعلن 520 وظيفة متنوعة للشباب    السيسي يعد بإنجازات جديدة (مدينة إعلام).. ومراقبون: قرار يستدعي الحجر على إهدار الذوق العام    نقيب الموسيقيين يفوض «طارق مرتضى» متحدثاً إعلامياً نيابة ًعنه    تامر عبد المنعم يفاجئ رمضان 2025 بمسلسل جديد يجمعه مع فيفي عبده ويعود للواجهة بثنائية التأليف والبطولة    وكيل صحة دمياط: إحالة مسئول غرف الملفات والمتغيبين للتحقيق    الصحة: علاج مريضة ب"15 مايو التخصصي" تعاني من متلازمة نادرة تصيب شخصًا واحدًا من بين كل 36 ألفًا    صوتك أمانة.. انزل وشارك فى انتخابات مجلس النواب تحت إشراف قضائى كامل    مصرع شخص إثر انقلاب سيارة نصف نقل في مياه أحد المصارف بالبحيرة    صفحة الداخلية منصة عالمية.. كيف حققت ثاني أعلى أداء حكومي بعد البيت الأبيض؟    : ميريام "2"    مانيج إنجن: الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل أمن المعلومات في مصر    الداخلية تكشف ملابسات اعتداء قائد سيارة نقل ذكي على سيدة بالقليوبية    حمزة عبد الكريم: سعيد بالمشاركة مع الأهلي في بطولة إفريقيا    عاجل- الداخلية المصرية تحصد المركز الثاني عالميًا في أداء الحسابات الحكومية على فيسبوك بأكثر من 24 مليون تفاعل    الوكيل الدائم للتضامن: أسعار حج الجمعيات هذا العام أقل 12 ألف جنيه.. وأكثر من 36 ألف طلب للتقديم    جامعة القناة تتألق في بارالمبياد الجامعات المصرية وتحصد 9 ميداليات متنوعة    فليك: فخور بأداء برشلونة أمام أتلتيك بيلباو وسيطرتنا كانت كاملة    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. الإخوان الإرهابية تواجه تهديدا وجوديا فى قارة أوروبا.. ترامب: خطة السلام بشأن أوكرانيا ليست نهائية.. تعليق الملاحة فى مطار آيندهوفن الهولندى بعد رصد مسيّرات    السعودية.. أمير الشرقية يدشن عددا من مشاريع الطرق الحيوية بالمنطقة    ب16 سفينة وتصدير منتجات ل11 دولة أوروبية.. ميناء دمياط يعزز مكانته اللوجيستية العالمية    د.حماد عبدالله يكتب: مشكلة "كتاب الرأى" !!    دولة التلاوة.. هنا في مصر يُقرأ القرآن الكريم    محافظة الجيزة تكشف تفاصيل إحلال المركبة الجديدة بديل التوك توك.. فيديو    باريس سان جيرمان يكتسح لوهافر بثلاثية في الدوري الفرنسي.. فيديو    روسيا: لم نتلقَّ أى رد من واشنطن حول تصريحات ترامب عن التجارب النووية    أبرز المرشحين على مقعد نقيب المجالس الفرعية بانتخابات المرحلة الأولى للمحامين    الري تفتح مفيض توشكى لاستيعاب تدفقات مفاجئة من السد الإثيوبي    المتحدث باسم الصحة: الإنفلونزا A الأكثر انتشارا.. وشدة الأعراض بسبب غياب المناعة منذ كورونا    طريقة مبتكرة وشهية لإعداد البطاطا بالحليب والقرفة لتعزيز صحة الجسم    أهالى القفايطة بنصر النوبة يشكرون الرئيس السيسى بعد تحقيق حلم تركيب الكهرباء والمياه    الزراعة: زيادة إنتاج مصر من اللحوم الحمراء ل600 ألف طن بنهاية 2025    مفتي الجمهورية: خدمة الحاج عبادة وتنافسا في الخير    الرعاية الصحية: أعظم الطرق لحماية الصحة ليس الدواء لكن طريقة استخدامه    بث مباشر الآن.. مباراة ليفربول ونوتنغهام فورست في الجولة 12 من الدوري الإنجليزي 2026    دولة التلاوة.. أصوات من الجنة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 22-11-2025 في محافظة الأقصر    الآن.. سعر الجنيه الذهب اليوم السبت 22-11-2025 في محافظة قنا    خلاف حاد على الهواء بين ضيوف "خط أحمر" بسبب مشاركة المرأة في مصروف البيت    عضو "الشؤون الإسلامية" يوضح حكم التعامل مع الدجالين والمشعوذين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في رحلته من الشك إلي الإيمان د. مصطفي محمود يكتب: الله
نشر في صباح الخير يوم 23 - 11 - 2010


د. مصطفي محمود
رسوم: محمد حجي
كان ذلك من زمن بعيد لست أذكره.. ربما كنت أدرج من الثالثة عشرة إلى الرابعة عشرة وربما قبل ذلك.. فى مطالع المراهقة.. حينما بدأت أتساءل فى تمرد:
- تقولون أن الله خلق الدنيا لأنه لابد لكل مخلوق من خالق ولابد لكل صنعة من صانع ولابد لكل وجود من موجد.. صدقنا وآمنا.. فلتقولوا لى إذن من خلق الله.. أم أنه جاء بذاته.. فإذا كان قد جاء بذاته وصح فى تصوركم أن يتم هذا الأمر.. فلماذا لا يصح فى تصوركم أيضًا أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق.. وينتهى الإشكال.
كنت أقول هذا فتصفر من حولى الوجوه وتنطلق الألسن تمطرنى باللعنات وتتسابق إلى اللكمات عن يمين وشمال.. ويستغفر لى أصحاب القلوب النقية ويطلبون لى الهدى.. ويتبرأ منى المتزمتون ويجتمع حولى المتمردون.. فنغرق معا فى جدل لا ينتهى إلا ليبدأ ولا يبدأ إلا ليسترسل.
وتغيب عنى فى تلك الأيام الحقيقة الأولى وراء ذلك الجدل، أن زهوى بعقلى الذى بدأ يتفتح وإعجابى بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التى انفردت بها.. كان هو الحافز دائمًا.. وكان هو المشجع.. وكان هو الدافع.. وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب. لقد رفضت عبادة الله لأنى استغرقت فى عبادة نفسى وأعجبت بومضة النور التى بدأت تومض فى فكرى مع انفتاح الوعى وبداية الصحوة من مهد الطفولة.
كانت هذه هى الحالة النفسية وراء المشهد الجدلى الذى يتكرر كل يوم.
وغابت عنى أيضا أصول المنطق وأنا أعالج المنطق ولم أدرك أنى أتناقض مع نفسى إذ أعترف بالخالق، ثم أقول ومن خلق الخالق فأجعل منه خلوقًا فى الوقت الذى أسميه فيه خالقا وهى السفسطة بعينها.
ثم إن القول بسبب أول للوجود يقتضى أن يكون هذا السبب واجب الوجود فى ذاته وليس معتمدًا ولا محتاجًا لغيره لكى يوجد، أما أن يكون السبب فى حاجة إلى سبب فإن هذا يجعله واحدة من حلقات السببية ولا يجعل منه سببًا أول.
هذه هى أبعاد القضية الفلسفية التى انتهت بأرسطو إلى القول بالسبب الأول والمحرك الأول للوجود.
ولم تكن هذه الأبعاد واضحة فى ذهنى فى ذلك الحين.
ولم أكن قد عرفت بعد من هو أرسطو ولا ما هى القوانين الأولى للمنطق والجدل.
واحتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق فى الكتب وآلاف الليالى من الخلوة والتأمل والحوار مع النفس وإعادة النظر ثم إعادة النظر فى إعادة النظر.. ثم تقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطريق الشائكة من الله والإنسان إلى لغز الحياة إلى لغز الموت إلى ما أكتب اليوم من كلمات على درب اليقين.
لم يكن الأمر سهلاً.. لأنى لم أشأ أن آخذ الأمر مآخذًا سهلاً.
ولو أنى أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودنى لأعفيت نفسى من عناء الجدل.. ولقادتنى الفطرة إلى الله.. ولكنى جئت فى زمن تعقد فيه كل شىء وضعف صوت الفطرة حيث صار همسا وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغرورًا واعتدادًا.. والعقل معذور فى إسرافه إذ يرى نفسه واقفًا على هرم هائل من المنجزات وإذ يرى نفسه مانحًا للحضارة بما فيها من صناعة وكهرباء وصواريخ وطائرات وغواصات وإذ يرى نفسه قد اقتحم البر والبحر والجو والماء وما تحت الماء.
فتصور نفسه القادر على كل شىء وزج بنفسه فى كل شىء وأقام نفسه حكما على ما يعلم وما لا يعلم.
وغرقت فى مكتبة البلدية بطنطا وأنا صبى أقرأ لشبلى شميل وسلامة موسى وأتعرف على فرويد ودارون.
وشغفت بالكيميا والطبيعة والبيولوجيا.. وكان لى معمل صغير فى غرفتى أحضر فيه غاز ثانى أكسيد الكربون وثانى أكسيد الكبريت، وأقتل الصراصير بالكلور وأشرح فيه الضفادع.
وكانت الصيحة التى غمرت العالم هى.. العلم.. العلم.. العلم.. ولا شىء غير العلم. النظرة الموضوعية هى الطريق
لنرفض الغيبيات ولنكف عن إطلاق البخور وترديد الخرافات.
من يعطينا دبابات وطائرات ويأخذ منا الأديان والعبادات؟! وكان ما يصلنا من أنباء العلم الغربى باهرًا يخطف أبصارنا وكنا نأخذ عن الغرب كل شىء.. الكتب والدواء والملابس والمنسوجات والقاطرات والسيارات حتى الأطعمة المعلبة حتى قلم الرصاص والدبوس والأبرة حتى نظم التعليم وقوالب التأليف الأدبى من قصة ومسرحية ورواية حتى ورق الصحف. وحول أبطال الغرب وعبقرياته كنا ننسج أحلامنا ومثلنا العليا.. حول باستير وماركونى ورونتجن وأديسون.. وحول نابليون وإبراهام لنكولن.. وكريستوفر كولمبس وماجلان.
كان الغرب هو التقدم.
وكان الشرق العربى هو التخلف والضعف والتخاذل والانهيار تحت أقدام الاستعمار. وكان طبيعيًا أن نتصور أن كل ما يأتينا من الغرب هو النور والحق.. وهو السبيل إلى القوة والخلاص.
ودخلت كلية الطب لأتلقى العلوم بلغة إنجليزية وأدرس التشريح فى مراجع إنجليزية وأتكلم مع أساتذتى فى المستشفى باللغة الإنجليزية.. ليس لأن إنجلترا كانت تحتل القنال ولكن لسبب آخر مشروع وعادل.. هو أن علم الطب الحديث كان صناعة غربية تمامًا.. وما بدأه العرب فى هذه العلوم أيام ابن سينا كان مجرد أوليات لا تفى بحاجات العصر.
وقد التقط علماء الغرب الخيط من حيث انتهى ابن سينا والباحثون العرب ثم استأنفوا الطريق بإمكانيات متطورة ومعامل ومختبرات وملايين الجنيهات المرصودة للبحث فسبقوا الأولين من العرب والفرس والعجم وأقاموا صرح علم الطب الحديث والفسيولوجيا والتشريح والباثولوجيا وأصبحوا بحق مرجعا.
وتعلمت مع ما تعلمت فى كتب الطب.. النظرة العلمية.. وأنه لا يصح إقامة حكم بدون حيثيات من الواقع وشواهد من الحس.
وأن العلم يبدأ من المحسوس والمنظور والملموس وأن العلم ذاته هو عملية جمع شواهد واستخراج قوانين.
وما لا يقع تحت الحس فهو فى النظرة العلمية غير موجود.
وأن الغيب لا حساب له فى الحكم العلمى.
بهذا العقل العلمي المادى البحت بدأت رحلتى فى عالم العقيدة، وبالرغم من هذه الأرضية المادية وهذا الانطلاق من المحسوسات الذى ينكر كل ما هو غيب فإنى لم أستطع أن أنفى أو أستبعد القوة الإلهية.
كان العلم يقدم إلىّ صورة عن الكون بالغة الإحكام والانضباط.. كل شىء من ورقة الشجر إلى جناح الفراشة إلى ذرة الرمل فيها تناسق ونظام وجمال.
الكون كله مبنى وفق هندسة وقوانين دقيقة.
وكل شىء يتحرك بحساب من الذرة المتناهية فى الصغر إلى الفلك العظيم إلى الشمس وكواكبها إلى المجرة الهائلة التى تحوى أكثر من ألف مليون شمس.. إلى السماء المترامية التى يقول لنا الفلك أن فيها أكثر من ألف مليون مجرة.
كل هذا الوجود اللامتناهى من أصغر إلكترون، إلى أعظم جرم سماوى كنت أراه أشبه بمعزوفة متناسقة الأنغام مضبوطة التوزيع كل حركة فيها بمقدار.. أشبه بالبدن المتكامل الذى فيه روح.
كان العلم يمدنى بطريقة أتصور بها الله بطريقة مادية.
وفى هذه الرحلة تصورت أن الله هو الطاقة الباطنة فى الكون التى تنظمه فى منظومات جميلة من أحياء وجمادات وأراض وسماوات، هو الحركة التى كشفها العلم فى الذرة وفى البروتوبلازم وفى الأفلاك، هو الحيوية الخالقة الباطنة فى كل شىء.. أو بعبارة القديس توماس.. الفعل الخاص الذى ظل يتحول فى الميكروب حتى أصبح إنسانًا ومازال يتحول، وسيظل يتحول إلى مالا نهاية.
والوجود كان فى تصورى لا محدودًا لا نهائيًا، إذ لا يمكن أن يحد الوجود إلا العدم.. والعدم معدوم.. ومن هنا يلزم منطقيًا أن يكون الوجود غير محدود ولا نهائى.
ولا يصح أن نسأل.. من الذى خلق الكون.. إذ أن السؤال يستتبع أن الكون كان معدومًا فى البداية ثم وجد.. وكيف يكون لمعدوم كيان.
إن العدم معدوم فى الزمان والمكان وساقط فى حساب الكلام ولا يصح القول بأنه كان. وبهذا جعلت من الوجود حدثًا قديمًا أبديًا أزليًا مبتدأ فى الزمان لا حدود له ولا نهاية. وأصبح الله فى هذه النظرة هو الكل ونحن تجلياته.
الله هو الوجود.. والعدم قبله معدوم.
هو الوجود المادى الممتد أزلا وأبدًا بلا بدء وبلا نهاية.
وهكذا أقمت لنفسى نظرية تكتفى بالموجود.. وترى أن الله هو الوجود.. دون حاجة إلى افتراض الغيب والمغيبات.. ودون حاجة إلى التماس اللامنظور.
وبذلك وقعت فى أسر فكرة وحدة الوجود الهندية وفلسفة سبينوزا.. وفكرة برجسون عن الطاقة الباطنة الخلاقة وكلها فلسفات تبدأ من الأرض.. من الحواس الخمس.. ولا تعترف بالمغيبات.
ووحدة الوجود الهندية تمضى إلى أكثر من ذلك فتلغى الثنائية بين المخلوق والخالق.. فكل المخلوقات فى نظرها هى تجليات الخالق.
وفى سفر اليوبانيشاد صلاة هندية قديمة تشرح هذا المعنى فى أبيات رقيقة من الشعر. إن الإله يراهما الذى يسكن قلب العالم يتحدث فى همس قائلاً:
إذا ظن القاتل أنه قاتل
والمقتول أنه قتيل
فليسا يدريان ما خفى من أساليبى
حيث أكون الصدر لمن يموت
والسلاح لمن يقتل
والجناح لمن يطير
وحيث أكون لمن يشك فى وجودى
كل شىء حتى الشك نفسه
وحيث أكون أنا الواحد
وأنا الأشياء
إنه إله يشبه النور الأبيض.. واحد.. وبسيط.. ولكنه يحتوى فى داخله على ألوان الطيف السبعة.
وعشت سنوات فى هذا الضباب الهندى وهذه الماريجوانا الصوفية ومارست اليوجا وقرأتها فى أصولها وتلقيت تعاليمها على أيدى أساتذة هنود، وسيطرت على فكرة التناسخ مدة طويلة وظهرت فى روايات لى مثل العنكبوت والخروج من التابوت.
ثم بدأت أفيق على حالة من عدم الرضى وعدم الاقتناع.
واعترفت بينى وبين نفسى أن هذه الفكرة عن الله فيها الكثير من الخلط.
ومرة أخرى كان العلم هو دليلى ومنقذى ومرشدى.
عكوفى على العلم وعلى الشريعة الحية تحت الميكروسكوب قال لى شيئًا آخر.
وحدة الوجود الهندية هى عبارة شعرية صوفية.. ولكنها غير صادقة.. والحقيقة المؤكدة التى يقولها العلم أن هناك وحدة فى الخامة لا أكثر.. وحدة فى النسيج والسنن الأولية والقوانين.. وحدة فى المادة الأولية التى بنى منها كل شىء.. فكل الحياة من نبات وحيوان وإنسان بنيت من تواليف الكربون مع الأيدروجين والأكسجين.. ولهذا تتحول كلها إلى فحم بالاحتراق.. وكل صنوف الحياة تقوم على الخلية الواحدة ومضاعفاتها.
ومرة أخرى نتعلم من الفلك والكيمياء والعلوم النووية أن الكربون ذاته وكذلك جميع العناصر المختلفة جاءت من طبخ عنصر واحد فى باطن الأفران النجمية الهائلة هو الأيدروجين.
الأيدروجين يتحول فى باطن الأفران النجمية إلى هليوم وكربون وسليكون وكوبالت ونيكل وحديد إلى آخر قائمة العناصر وذلك بتفكيكه وإعادة تركيبه فى درجات حرارة وضغوط هائلة.
وهذا يرد جميع صنوف الموجودات إلى خامة واحدة.. إلى فتلة واحدة حريرية غزل منها الكون فى تفصيلات وتصميمات وطرز مختلفة.
والخلاف بين صنف وصنف وبين مخلوق ومخلوق هو خلاف فى العلاقات الكيفية والكمية.. فى المعادلة والشفرة التكوينية.. لكن الخامة واحدة.. وهذا سر الشعور بالنسب والقرابة والمصاهرة وصلة الرحم بين الإنسان والحيوان وبين الوحش ومروضه وبين الأنف التى تشم والزهرة العاطرة وبين العين ومنظر الغروب الجميل.
هذا هو سر الهارمونى والانسجام.
إن كل الوجود أفراد أسرة واحدة من رب واحد، وهو أمر لا يستتبع أبدًا أن نقول إن الله هو الوجود، وأن الخالق هو المخلوق فهذا خلط صوفى غير وارد.
والأمر شبيه بحالة الناقد الذواقة الذى دخل معرضًا للرسم فاكتشف وحدة فنية بين جميع اللوحات.. واكتشف أنها جميعًا مرسومة على نفس الخامة، وبذات المجموعة الواحدة من الألوان، والأكثر من هذا أن أسلوب الرسم واحد.
والنتيجة الطبيعية أن يقفز إلى ذهن الناقد أن خالق جميع هذه اللوحات واحد، وأن الرسام هو بيكاسو أو شاجال أو موديليانى.. مثلاً.. فالوحدة بين الموجودات تعنى وحدة الخالق.. ولكنها لا تعنى أبداً أن هذه الموجودات هى ذاتها الخالق.
ولا يقول الناقد أبدًا أن هذه الرسوم هى الرسام.
إن وحدة الوجود الهندية شطحة صوفية خرافية.. وهى تبسيط وجدانى لا يصادق عليه العلم ولا يرتاح إليه العقل.
وإنما تقول النظرة العلمية المتأملة لظواهر الخلق والمخلوقات أن هناك وحدة بينها.. وحدة أسلوب ووحدة قوانين ووحدة خامات تعنى جميعها أن خالقها واحد لم يشرك معه شريكا ولم يسمح بأسلوب غير أسلوبه.
وتقول لنا أيضًا إن هذا الخالق هو عقل كلى شامل ومحيط يلهم مخلوقاته ويهديها فى رحلة تطورها ويسلحها بوسائل البقاء فهو يخلق لبذور الأشجار الصحراوية أجنحة لتستطيع أن تعبر الصحارى الجرداء بحثًا عن ماء وعن ظروف إنبات مواتية.
وهو يزود بيضة البعوضة بكيسين للطفو لتطفو على الماء لحظة وضعها ولا تغرق.
وما كان من الممكن للبعوض أن تدرك قوانين أرشميدس للطفو فتصنع لبيضها تلك الأكياس. وإنما هو العقل الكلى الشامل المحيط الذى خلق.. هو الذى يزود كل مخلوق بأسباب حياته.. وهو خالق متعال على مخلوقاته، يعلم ما لا تعلم ويقدر على ما لا تقدر ويرى ما لا ترى.
فهو واحد أحد قادر عالم محيط سميع بصير خبير.. وهو متعال يعطى الصفات ولا تحيط به صفات.
والصلة دائمًا معقودة بين هذا الخالق ومخلوقاته فهو أقرب إليها من دمها الذى يجرى فيها.
وهو المبدع الذى عزف بإبداع هذه المعزوفة الكونية الرائعة.
وهو العادل الذى أحكم قوانينها وأقامها على نواميس دقيقة لا تخطئ.
وهكذا قدم لى العلم الفكرة الكاملة عن الله.
أما القول بأزلية الوجود لأن العدم معدوم والوجود موجود فهو جدل لفظى لا يقوم إلا على اللعب بالألفاظ.
والعدم فى واقع الأمر غير معدوم وقيام العدم فى التصور والفكر ينفى كونه معدومًا.
والعدم هو على الأكثر نفى لما نعلم ولكنه ليس نفيًا مطلقًا مساويًا للمحو المطلق، وفكرة العدم المطلق فرضية مثل فرضية الصفر الرياضى.. ولا يصح الخلط بين الافتراض والواقع، ولا يصح تحميل الوجود فرضًا نظريًا، فنقول اعتسافًا أن العدم معدوم، ونعتبر أن هذا الكلام قضية وجودية نبنى عليها أحكامًا فى الواقع.. هذا تناقض صريح وسفسطة جدلية.
والكون إذن ليس أزليًا.. وإنما هو كون مخلوق بعد بدء بدليل آخر من قاموس العلم هو ما يعرف باسم «القانون الثانى للحرارة الديناميكية.
ويقرر هذا القانون أن الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد.. من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان فيتوقف التبادل الحرارى.
ولو كان الوجود أبديًا أزليًا بدون ابتداء لكان التبادل الحرارى قد توقف فى تلك الآباد الطويلة المتاحة وبالتالى لتوقف كل صور الحياة.. ولبردت النجوم وصارت بدرجة حرارة الصقيع والخواء حولها وانتهى كل شىء.
إن هذا القانون هو ذاته دليل على أن الكون كان له بدء.
والقيامة الصغرى التى نراها حولنا فى موت الحضارات وموت الأفراد وموت النجوم وموت الحيوان والنبات وتناهى اللحظات والحقب والدهور هى لمحة أخرى تدلنا على القيامة الكبرى التى لابد أن ينتهى إليها الكون.
إن العلم الحق لم يكن أبدًا مناقضًا للدين بل إنه دال عليه مؤكد لمعناه.
وإنما نصف العلم هو الذى يوقع العقل فى الشبهة والشك.. خاصة إذا كان ذلك العقل مزهوًا بنفسه معتدًا بعقلانيته.. وخاصة إذا دارت المعركة فى عصر يتصور فيه العقل أنه كل شىء.. وإذا حاصرت الإنسان شواهد حضارة مادية صارخة تزأر فيها الطائرات وسفن الفضاء والأقمار الصناعية.. هاتفة كل لحظة.أنا المادة.. أنا كل شىء.
د. مصطفي محمود
رحلتي من الشك إلي الإيمان 1970


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.