صديقاتي من مدن العالم يختبئن في قلبي بين ضلوعي, أرتمي بين ذراعي المدينة حين أدخل مغارة حزن أو تحاول عاصفة كسري أو تمر أطياف شجن توقظ ذكريات كنت أظن أنها سقطت من الذاكرة فإذا بها خضراء بعد, لا يعرف أسرار علاقتي بمدن العالم إلا ضباط الجوازات في المطارات, يعرفون إنها استقبلتني ولثمتني وحين ودعتني ربتت علي ظهري, يعرفون ذلك العناق بين التاريخ والجغرافيا وأنا مسافر بلا حقائب, فالمدن لا تخطيء في معرفة عشاقها وتشم رائحة الشوق وتسلم مفتاح قلبها لمن اختارته رفيق طريق. من صديقاتي, ميلانو الأنيقة ودسلدورف الجادة وعمان الأردنية التي حافظت علي الثوب المطرز, وطوكيو الساهرة علي الين, وباريس الفكر, وبيروت المعجونة بالأسي وهي تبتسم.. ضلوع أي مدينة هي شوارعها وأرصفتها وميادينها ونافوراتها وسرة المدينة في قلبها ومقاهيها, وأنا كائن نهاري ونصف ليلي, أعانق المدن وأضمها الي صدري ولا أكف عن تقبيلها وأهمس في أذنها بعذاباتي الصغيرة وأبوح لها ببعض هزائمي, المدن لا تخون ولا تتبدل ولا تحنث بالعهود, لكل مدينة من صديقاتي من مدن العالم أسلوبها. كثيرا ما أقمت حوارا مع مدن أحببتها, وكان الحوار حضاريا سرق وقتي, نعم جمال بعض صديقاتي من مدن العالم يرشو الوقت, فتمضي الساعات وكأنها دقائق, كل مرة أزور مدينة توثقت علاقتي بها وتعمدت بمياهها ورميت عملة معدنية في إحدي بحيراتها وصعدت أحد أبراجها, اكتشف أنها تجملت, تماما كالنساء, صارت تخطف العيون فأصبحت أغار عليها أكثر, صارت ناعمة فأصبحت أخاف عليها أكثر. من مدن مصر ثلاث صديقات, الإسكندرية الجميلة شتاء, وشرم الشيخ الحضن الكبير و.. الأقصر العريقة أي الأصيلة, ربما لأنها بلد رفيقة دربي الراحلة التي رأيتها لأول مرة في بهو الأولدوينتر أحد فنادقها القديمة, عشت الأقصر وهي تئن ولا أحد يصغي لهذا الأنين, رأيتها تشكو وتتسول اهتماما, كانت صديقتي الأقصر مهمشة لا أحد يمسح عن جبينها ارهاق الأيام وسنوات الاهمال. المدن تصاب بالشيخوخة المبكرة مثل النساء حين يجف القلب وتموت اللهفة وتتصحر الشفاة ويذهب البريق, هكذا كنت أري صديقتي الأقصر تذوي يوما بعد يوم, شريان واحد من شرايين قلبها أجريت فيه عمليات إعاشة وهو الكورنيش وبقية الشرايين تنام فيها الجلطات وتنذر بالموت المفاجيء كل فارس جاء الي الأقصر, اعتبرها استراحة نهاية الخدمة, فصم أذنيه ونام يحلم أحلام الكسالي وسقطت صديقتي الأقصر في بحر الوحل. كان ينقص الأقصر( قرارا) لطبيب يحمل معه أدوات الجراحة المعقمة برؤية وكان طبيب صديقتي التي ائتمنه عليها رجل اسمه( د. سمير) وعلي يديه كان( الفرج), أجري الطبيب تحاليل عديدة ورسم خريطة لمستقبل صديقتي الأقصر لسنين قادمة, ناس الأقصر استعجلوا عملية التجميل, قالوا له ننتظر مشرطك, وبدأ الطبيب, نزع الأراضي والبيوت المقامة فوق الآثار وكان ثمن التطوير تعويضا ماليا, الطبيب بارع في الآداء المدني لأنه بخلفية عسكرية تعرف معني الحلم والقرار واليد الممدودة للتعاون والذوبان في الجهد والعمل ضمن مجموعة وانكار الذات, بدأت الأقصر تتجمل وضخ الدم في شرايينها وعادت لها الطلة والحضور. وجاءت اللمسة المتحضرة لإعادة( الرونق) للأقصر من امرأة من مصر تنصهر كالشموع لتضيء طريقا حلمت به واسمها سوزان ثابت ويعرفها الناس بقرينة رئيس مصر, البداية والانقلاب والزلزال في رأس هذه السيدة هو التعليم الصحيح, وحين زرت واحدة من هذه المدارس التي وفرت لها كل مقومات العلم المتقدم والنظافة والأمان والمدرس المربي, كانت فرحتي غامرة تزيح من رأسي خيوطا من الكآبة العنكبوتية لحال مدارس في مدن أخري, جاءت سوزان ثابت الي الأقصر مرات كثيرة لتتابع بنفسها أحوال مدينة خرجت لتوها من غرفة عمليات, كانت كما سمعت تناقش أصغر التفاصيل وتريد إجلاء الغشاوة من العقول, وقف رجل يقول بصوت مبحوح( السنارة حرام), كان يقصد أن جهاز السونار الطبي الذي يكشف عن أمراض الجنين أو تشوهاته لإمكان علاجها قبل الولادة, ولما فهم( اعقلها وتوكل), وقف رجل آخر يشكو من هدم بيته ويصرخ كالمجنون( عايش هنا وحموت هنا) ولما فهم أن آثار الأقصر جاذبة للرزق صمت و(اعقلها وتوكل), كان سمير فرج يستحق احتراما لجهده المضني ورتبة أكبر, ومنحت القيادة السياسية الأقصر.. رتبة( المحافظة). وكان اهتمام الهيئات الدولية بالصحة من نصيب الأقصر المحافظة, وكما حلمت سوزان ثابت سار الخطان بتواز التعليم والصحة والطبيب طارد للدجال وبقي ما يقوله المسجد وكاهن الكنيسة للناس بعد الصلاة ليكتمل مثلث التغيير. تنبهوا أن رياح التحضر قد تهب من الجنوب, وتعيد مجد طيبة, إن صعيد مصر يستيقظ من كهفه ويتثاءب, إن لمسة هذا المايسترو سوزان ثابت تقود بعصا المايسترو الساحرة عازفين مهرة لا يصدر عنهم النشاز, والرجال المخلصون يدفعون مهرها من عقولهم وسواعدهم وبلدنا ولادة تنجب الرجال.. الرجال, وصديقتي( الأقصر) كانت البشارة! المزيد من مقالات مفيد فوزى