من سخريات القدَر أن تمتد طوابير السيارات عدة كيلومترات انتظاراً لدورها فى التموين، وأن تضطر جامعة لاجوس لإغلاق أبوابها لضعف المياه والكهرباء بمنشآتها نتيجة نقص الوقود فى نيجيريا أكبر منتج للبترول فى إفريقيا(2٫3 مليون برميل يومياً)،ومن دواعى الدهشة أن تعجز الحكومة عن دفع رواتب الموظفين لعدة شهور ويعيش 60% من الشعب تحت خط الفقر وتنفرد الدولة بأكبر عدد من الأطفال المحرومين من التعليم فى العالم وأعلى نسبة وفيات عند الولادة.لكن إذا عُرف السبب بطل العجب. أما السبب فهو الفساد الذى يتفشى فى كل أجهزة وطبقات الدولة لدرجة أن أحد الخبراء فى العاصمة أبوجا قال:أينما تنقِّب فى أنشطة الحياة اليومية تجد فساداً لدرجة أنه يمكن مثلاً التعاقد لبناء مدرسة أومستشفي، ولا يتم البناء ويقتسم طرفا التعاقد المبلغ ويذهبان إلى حال سبيلهما!.والأخطر ما كشف عنه مؤخراً نائب الرئيس يمى أوسينباجو من اختفاء نحو 15 مليار دولار من خزانة الدولة خلال فترة حكم الرئيس السابق جودلاك جوناثان (سبع سنوات) تعادل نصف احتياطى النقد الأجنبى للدولة التى تمر بأسوأ أزماتها الاقتصادية منذ عقود بسبب انخفاض أسعار البترول والفساد.واتهمت الرئاسة 300 شركة وشخصية من بينهم 12 من كبار ضباط الجيش باختلاس 241٫45 مليون دولار من خلال تعاقدات عسكرية مبالغ فيها أو بالاحتيال.وزاد وزير الإعلام أن 55 شخصاً ممَّن شغلوا مناصب وزارية وحكام ولايات ومناصب عامة نهبوا 6,8 مليار دولار خلال حكم جوناثان.ويُقال إن رئيس أركان سابقاً للجيش نهب 20 مليون دولار واشترى بها قصراً فى العاصمة أبوجا من صفقة طائرات مقاتلة وهليكوبتر وذخيرة قيمتها مليارا دولار كان الهدف منها تعزيز قدرات الجيش فى مكافحة حركة بوكو حرام الإرهابية التى تشن حرباً شعواء منذ عام 2009 راح ضحيتها 17 ألف إنسان معظمهم مدنيون، وتعرَّض 2,5 مليون آخرون للتشريد!.كما تم اتهام مستشار الرئيس السابق للأمن القومى بالتورط فى اختفاء 68 مليون دولار من الصفقة ذاتها وضبطت الحكومة حتى اللحظة نحو 24 ألف موظف وهمى يتقاضون رواتب ثابتة وقطعتها عنهم. تستحق عمليات نهب الثروة البترولية التى تشكل عائداتها 75% من ميزانية الدولة التوقف عندها،حيث قال مسئولون إن شركة البترول الوطنية لم تورِّد للدولة عائدات قدرها 16 مليار دولار فى عام 2014 وحده وإن الدولة فقدت فى عام 2013 أيضاً 20 مليار دولار من العائدات،لكن الشركة تقول إن الفترة بين عامى 2014 و2015 شهدت 4000 اعتداء على أنابيب البترول.ويقول خبراء إن الفساد يجعل من المستحيل حتى معرفة الحجم الحقيقى لإنتاج البترول الذى يتم اختلاس وتهريب 300 ألف برميل منه يومياً حيث تقوم عصابات بثقب الأنابيب المتهالكة ليلاً وتحمل الخام على مراكب وسفن إلى معامل تكرير صغيرة يديرها فاسدون كبار يتولون حمايتهم ويبيعونه ويقتسمون ثمنه.ويقدِّر خبراء خسائر الدولة بسبب الفساد فى مجال البترول وحده بنحو 12 مليار دولار سنوياً،كما يحذِّر تقرير متخصص من أن نيجيريا ستفقد 30% من اجمالى ناتجها القومى بحلول عام 2030 بسبب الفساد إذا استمر بوتيرته الحالية حيث تشغل المرتبة الرابعة عشرة بين الدول الأكثر فساداً فى العالم وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية. انتهى زمن الإفلات من العقاب..قالها الرئيس محمد بخارى الذى أضاف أن حجم المبالغ المسروقة يُذهب العقل وتعهد منذ لحظة توليه الحكم فى مايو 2015 باستئصال الفساد، وأمر بإحالة العديد من المسئولين وكبار الضباط السابقين والحاليين للتحقيق خاصةً فى صفقة الأسلحة،وعلى هامش مؤتمر لندن لمكافحة الفساد الخميس الماضى ردَّ بنعم على سؤال عما إذا كانت نيجيريا دولة فاسدة بشكل خيالى كما وصفها ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا.لكن مهمته تكاد تكون مستحيلة فى ضوء تغلغل الفساد فى كل أجهزة الدولة بما فيها الجيش والشرطة لدرجة أنه قضى خمسة أشهر يبحث عن شخصيات نظيفى الذمم لتولِّى المناصب الوزارية عند تشكيل الحكومة،وليس من المستبعد أن يطيح به العسكر قبل أن يستكمل تطهير الجيش فى بلد عانى من كثرة الانقلابات العسكرية معظم فترة ما بعد الإستقلال.ومازالت الأموال التى تم استردادها قليلة إذا قورنت بما تم نهبه،فمثلاً من حوالى مليارى دولار نهبها الحاكم العسكرى سانى أباتشا (1994-1999) وافقت سويسرا فى مارس الماضى على رد 321 مليون دولار،وهو مجرد واحد من حكام عديدين ومسئول واحد من آلاف المسئولين الذين عاثوا فى نيجيريا فساداً؟. لا تنفرد نيجيريا بالفساد ولكن بحجمه وتغلغله،فقد ذكر تقرير لمنظمة (نيو وورلد ويلث) المعنية برصد عدد الأثرياء فى العالم أن عدد المليونيرات الأفارقة (منهم 15400 نيجيري) تضاعف خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة رغم الفقر المدقع بمناطق كثيرة فى القارة. ولم يبالغ الصحفى البريطانى توم بيرجيس عندما قال فى كتابه (آلة النهب..السرقة الممنهجة لثروات إفريقيا) إن المآسى التى تعيشها الشعوب الإفريقية ليس سببها الحروب الداخلية فقط، وإنما أيضاً عمليات النهب المبرمجة لثرواتها من جانب الشركات المتعددة الجنسيات بالتواطؤ مع الطبقات الحاكمة. لمزيد من مقالات عطيه عيسوى