ماكان الخيار لانتخاب عمدة جديد للعاصمة البريطانية لندن اليوم ليكون أكثر تباينا بالنسبة للناخبين. فهناك 12 مرشحا لمنصب عمدة لندن، لكن الصراع الحقيقى مقتصر على مرشحين اثنين وهما صديق خان، 45 عاما، مرشح حزب العمال الذى ينتمى ليسار الوسط. وهو من أصول آسيوية، مسلم ملتزم، من عائلة مهاجرة، والده يعمل سائقا فى اتوبيسات النقل العام فى لندن. عمل محاميا حقوقيا ثم نائبا فى البرلمان عن منطقة "توتينج" المتوسطة الحال، وقاعدته الأنتخابية الأساسية هى الطبقة الوسطى والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى. والمرشح الثانى زاك جولدسميث، 41 عاما، مرشح حزب المحافظين الحاكم. ليبرالي، يهودى من عائلة جولدسميث النافذة والثرية. درس فى "كلية ايتون" العريقة، وعمل صحفيا فى جريدة أسسها عمه، ثم نائبا فى البرلمان عن منطقة "ريتشموند بارك" إحدى أغنى دوائر لندن. وقاعدته الانتخابية الطبقة الوسطى والشرائح العليا من الطبقة الوسطي. الاختلافات الجلية لا تقف على الخلفية والنشأة والدين، بل على التوجهات السياسية فى القضايا الملحة التى تواجهها لندنوبريطانيا إجمالا، وعلى رأسها الموقف من البقاء أو مغادرة الاتحاد الأوروبي. ففيما يدعم خان بقاء بريطانيا فى الاتحاد، يريد جولدسميث المغادرة. وموقفهما من قضية علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبى سيلعب دورا فى التصويت اليوم. فلندن هى أكثر مدينة بريطانية تريد البقاء داخل الاتحاد الأوروبي. ووفقا لأخر استطلاعات الرأي، يتقدم خان ب48% من الأصوات، مقابل 32% لجولدسميث. لكن مع ذلك من الصعب الجزم بنتيجة الانتخابات. ففى حالة الاقبال الضئيل يمكن أن يحدث أى شىء. ويقول تونى ترافرز استاذ العلوم السياسية فى كلية لندن للعلوم الاقتصادية إن ضعف الاقبال من شأنه ان يجعل النتائج أكثر تقاربا، موضحا:"التوقعات أن تبلغ نسبة التصويت بين 32% و35%. والسؤال الجوهرى هو: أنصار أى مرشح سيتقاعسون عن المشاركة... الاعتقاد العام أنه كلما قلت المشاركة، عزز هذا حظوظ جولدسميث". ويتابع:"البريطانيون لا يحبذون الذهاب لصناديق الأقتراع كثيرا. ولأن الأستفتاء على بقاء أو مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبى المقرر فى 23 يونيو المقبل هو الأكثر أهمية، فإن الكثيرين سيختارون التصويت فى الاستفتاء على حساب الانتخابات المحلية. لكن ستظل نسبة التصويت معقولة فى ضوء أهمية القضايا والتباينات الكبيرة بين المرشحين". لا شك فى أهمية التوقيت وأهمية القضايا. فالانتخابات تأتى فى وقت تواجه فيه لندن الكثير من التحديات وتتجه فيه لتحديد موقعها داخل الأتحاد الأوروبي. وإلى جانب انتخابات العمدة، ستنتخب لندن أيضا اليوم مجلسها المحلى المكون من 25 نائبا فى اطار الانتخابات المحلية فى انجلترا وأسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية لشغل 2700 مقعد. ويعتبر توفير مساكن بأسعار ملائمة والمواصلات أهم قضيتين بالنسبة للناخب اللندني. فلندن مدينة تكبر باضطراد، وعدد سكانها يتزايد بنحو 120 ألف نسمة سنويا، فيما المنازل التى يتم بناؤها سنويا نحو 20 ألف وحدة سكنية فقط. هذه الفجوة باتت مشكلة لدى سكان لندن، خاصة أن الكثير من الوحدات السكنية التى تبنى ليست فى متناول أصحاب الدخول المتوسطة، ما جعل سوق العقارات فى العاصمة أقرب لقدرات المستثمر الخارجى القادم من الخليج أو الصين أو روسيا وليس المواطن البريطاني. ومع أن خان وجولدسميث تعهدا بمعالجة أزمة السكن فى لندن. لكن الحل لن يكون سهلا. فالعمدة لا يبنى وحدات سكنية، أنها مهمة المجالس المحلية لكل دائرة انتخابية. وما يستطيع العمدة أن يفعله هو تشجيع المجالس المحلية على زيادة تصاريح البناء، وتشجيع سوق العقارات. إنها مهمة صعبة، فالعمدة الحالى بوريس جونسون ومن قبله كين ليفنجستون وجدا صعوبة فى بناء 25 ألف وحدة سكنية فى العام. المواصلات قضية أخرى ساخنة. فأسعار المواصلات فى لندن هى الأكثر ارتفاعا فى أوروبا، والثانية على مستوى العالم بعد طوكيو. والنقاش الانتخابى يدور حول هل تحتاج لندن إلى خطوط سكك حديدية جديدة، وإلى مد خط مترو "بيكرلو" الحيوي، وزيادة ساعات خدمة المترو خلال الليل. وفى برنامجه الأنتخابى يريد خان، الذى عمل وزيرا للمواصلات فى حكومة جوردن براون وكان اول مسلم يشارك فى اجتماعات الحكومة البريطانية، يريد وقف رفع أسعار المواصلات فى لندن حتى عام 2020، لكن جولدسميث يقول إن هذا سيؤدى إلى إعاقة بناء وتطوير خطوط القطارات والمترو فى لندن. وفيما لا يريد جولدسميث توسيع مطار هيثرو لدواع بيئة ومناخية، يريد خان توسيع هيثرو من أجل تسهيل الحركة وجذب المزيد من المسافرين. أما القضايا الأخرى فتتضمن الحد من الجريمة فى العاصمة، والتلوث، وتعزيز الاستثمارات الداخلية والخارجية. ووفقا لاستطلاعات الرأى فإن 32% من اللندنيين يثقون فى خطط خان لعلاج أزمة السكن فى العاصمة، مقابل 18% يثقون فى خطط جولدسميث. كما يدعم 32% خطط خان لتجميد أسعار المواصلات وتحسين الخدمة مقابل 18% لجولدسميث. أما فيما يتعلق بالتصدى للجريمة، فإن 24% دعموا برنامج خان، مقابل 21% لجولدسميث. مقابل هذا تدعم دوائر المال والأعمال فى لندن جولدسميث وتعتقد أنه سيجعل لندن مكانا أكثر جاذبية للإستثمارات وجذب المشروعات. وفى استطلاعات الرأى أيد 31% من اللندنيين أفكاره حول تعزيز الأستثمارات فى لندن، مقابل 21% لصديق خان. لكن الأهم من كل هذه القضايا، مسألة بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ففيما يريد صديق بقاء بريطانيا داخل الاتحاد، يريد جولدسميث خروج بريطانيا من الاتحاد على غرار عمدة لندن الحالى بوريس جونسون وعلى غرار والده الملياردير رجال المال السير جيمس جولد سميث المعادى الكبير لأوروبا. ويواجه كاميرون معضلة حقيقة، فمن ناحية هو يريد لمرشح "حزب المحافظين" جولدسميث أن يفوز بمنصب عمدة لندن كى لا يذهب المنصب لحزب العمال المنافس. لكنه من ناحية أخرى لا يريد أن يتكاتف جولدسميث، مستخدما منصبه كعمدة لندن، إذا فاز، مع بوريس جونسون لاقناع البريطانيين بالخروج من أوروبا. ففوز معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي، يعنى عمليا نهاية مستقبل كاميرون السياسي. أما خيار كاميرون الثاني، فهو أن يخسر "حزب المحافظين" لندن، ويفوز بها خان المرشح العمالي، الذى يدعم بقاء بريطانيا داخل الاتحاد والذى سيعمل ضمنا مع كاميرون على اقناع الناخبين بالتصويت بالبقاء خلال الاستفتاء المقرر 23 يونيو المقبل. بعبارة أخرى أيا كانت نتيجة انتخابات اليوم، سيخسر كاميرون أما لندن، أو استفتاء مصير بريطانيا داخل الأتحاد الأوروبي، الذى سيحدد مستقبله السياسي. وهذه هى معضلته. يتجه البريطانيون اليوم إذن للتصويت بعد حملة انتخابية طويلة وشاقة وصفت أيضا بأنها "قبيحة" بعدما وجهت اتهامات لجولدسميث باللعب على هوية منافسة "المسلم" وربطه بالتطرف، ومحاولاته شق صف اللندنيين بتأليب الأقليات على بعضها البعض بالتركيز على نيل أصوات اليهود والسيخ والهندوس الذين قد لا يميلون لانتخاب مسلم لعمدية لندن لأسباب واعتبارات سياسية ودينية وتاريخية. وهى المحاولات التى أدت إلى اتهام جولدسميث بالعنصرية وألبت ضده حتى انصار تقليديين لحزب المحافظين. وتنفى حملة جولدسميث، التى تديرها شركة علاقات عامة أسسها ديفيد كاميرون مع رجل العلاقات العامة الاسترالى ليونتون كروسبى الذى يعتمد فى استراتيجيته على الاسلاموفوبيا والتخويف من المهاجرين، تنفى الحملة أن تكون لجأت لأساليب عنصرية. من ناحيتها، تصر حملة خان على أنها "تمثل كل اللندنيين". ففى مدينة 40% من سكانها من أقليات عرقية مهاجرة، انتخاب «مهاجر ابن مهاج» هو شئ منطقي، ويعد تطورا طبيعيا للمدينة وتكوينها الديمجرافي. ويقول المتحدث باسم حملة خان ل"الأهرام": «نحن حملة قامت على الأمل لا على التخويف. وخان إذا انتخب سيكون ممثلا لكل اللندنيين وليس لطائفة أو عرق أو دين». لندن مدينة تميل إجمالا لحزب العمال. ففى الانتخابات العامة الأخيرة فى مايو من العام الماضى كان 45 نائبا من نوابها ال73 من "حزب العمال". وهى المدينة الوحيدة التى عزز فيها "العمال" مقاعدهم، فيما صوتت باقى المدن للمحافظين. وإذا فاز خان اليوم سيصبح "أقوى سياسى مسلم فى أوروبا"، وسيعد فوزه انتصارا كبيرا بكل المعايير فى ضوء تغلل الاسلاموفوبيا فى اوروبا بعد هجمات باريس وبروكسل.