إن ثمة متطلبات رئيسية تقوم بها الدبلوماسية البرلمانية المصرية تجاه الدول العربية، فى المرحلة الراهنة، للتعامل مع التحديات القائمة والمشكلات المحتملة التى يمكن أن تؤثر على علاقات مصر العربية بالسلب، بل طرح مجموعة من الأفكار التى تعزز من الدور المصرى هناك، وفق خطة طويلة الأمد، ولكنها سريعة الحصاد، تتعلق ببنية الدولة الوطنية العربية أو العلاقات العربية البينية أو أداء المؤسسة التشريعية أو تفعيل الثقافة العربية، فضلا عن حزمة من القضايا التى تشكل أولوية للسياسة المصرية. فقد باتت تؤدى السلطة التشريعية المنتخبة على مستوى العلاقات الخارجية بين الدول، دورًا هامًا ورئيسًا، كأحد قنوات الدبلوماسية الرسمية. وقد تجلت مظاهر هذه الدبلوماسية من خلال زيادة وتيرة الزيارات المتبادلة بين الوفود البرلمانية وبعضها البعض، وبينها وبين المسئولين فى أعلى قمة الأنظمة السياسية الحاكمة على مستوى العالم. بمعنى مغاير، استطاعت بعض برلمانات العالم، مثلاً الكونجرس الأمريكي، أن تلعب دورًا فى عملية صنع وتنفيذ السياسة الخارجية لدولهم، بل وتتدخل فى الكثير من الأحيان لحل أو لتقريب وجهات النظر بين صانعى القرار فى السلطة التنفيذية. وفى أحيان أخري، وفى حالات القطيعة بين الدولة وغيرها من دول العالم، قد تقييم السلطة التشريعية علاقات خارجية بمنأى عن الدبلوماسية التقليدية إذ ما رأت السلطة التشريعية ضرورة فى ذلك. وبناء عليه، يمكن القول، حدث تراجع فى دور الدبلوماسية بمعناها التقليدي، وأنها ما زالت مهمة، وهى الأصل أيضًا، لصالح أشكال جديدة ومتعددة من الدبلوماسيات الأخري، مختلفة الأداء، ومتنوعة الأغراض، بسبب اتساع وتنوع مجالات العلاقات بين الدول حيث ظهر من قبل ما عرف باسم «الدبلوماسية الجماعية»، أى الدبلوماسية بين مجموعة من الدول عن طريق المؤتمرات أو المنظمات الدولية، و«الدبلوماسية البرلمانية». وقد شاع هذا النوع الثاني، بتواتر وتصاعد، منذ نشأة «عصبة الأمم» وحتى اليوم. ويضاف إليهما «الدبلوماسية الشعبية» Public Diplomacy والذى ظهر خلال الحرب العالمية الأولى على نطاق واسع، لوصف مجموعة من الممارسات الدبلوماسية الجديدة، تهتم بشرح وتبرير سياسات الدولة لشعبها، وكذا لمخاطبة شعوب الدول الأخرى وخصوصًا تلك المعادية. دبلوماسية ثنائية وفى الواقع العملي، تتخذ الدبلوماسية البرلمانية شكلين أساسيين، يتمثل الأول فى دبلوماسية برلمانية «ثنائية»، وتتجسد فى تبادل الزيارات والبعثات الثنائية بين مختلف برلمانات العالم التى لا تقتصر مهمتها على لقاء البرلمانيين بل تلتقى أيضًا مع المسؤولين الحكوميين وأحيانا مع الفاعلين المدنيين. أما النوع الثانى فيأخذ طابع دبلوماسية برلمانية «جماعية» تمارس على صعيد المنظمات والاتحادات البرلمانية الدولية التى تشكل أهم قنوات تفعيل الدبلوماسية البرلمانية. ويعتبر الاتحاد البرلمانى الدولى أهم هذه الهيئات إلى جانب البرلمانات المناطقية مثل الاتحاد البرلمانى العربى واتحاد البرلمانات الإفريقية والبرلمان الأوروبى الذى يقدم نموذجًا فريدًا فى هذا الجانب لما يتمتع به من سلطات سياسية واسعة ولطبيعة انتخاب أعضائه، الذى يتم بالاقتراع العام المباشر فى جميع دول الاتحاد. وتتمثل أهم وظائف الدبلوماسية البرلمانية فى ربط التعاون بين البرلمانات الوطنية لحل بعض القضايا الدولية، والمساهمة فى حل النزاعات الدولية عبر تشكيل لجان للوساطة وتقريب وجهات نظر الأطراف المتصارعة، ودفاع البرلمانات الوطنية على قضايا بلدانها وشرح مواقف حكوماتها من القضايا المطروحة. وبناء عليه يستطيع مجلس النواب المصرى بتشكيلته الحالية، أن يتبنى على المديين، الطويل والقصير، أجندة برلمانية موجهة إلى المنطقة العربية تهدف إلى إعادة اللحمة بين الأوطان العربية والحفاظ على تماسك بنية الدولة الوطنية العربية. محاور خمس وتجدر الإشارة إلى أن هناك مجموعة من المحاور طويلة الأمد يستطيع أن يلعب فيها البرلمان المصرى دورًا فاعلاً ومؤثرًا للغاية إذ أرد ذلك، ومن هذه القضايا ما يلي: أولا: وضع استراتيجية عربية موحدة لإعادة بناء الدولة الوطنية، وذلك بهدف الحفاظ على وحدة وتماسك الدول العربية، وإعادة اللحمة مرة ثانية لتلك الدول التى شهدت صراعا داخليا، وهو ما طالب به أستاذنا العالم الجليل السيد يسن فى الكثير من لقاءاته مؤخرًا. وتقوم هذه الاستراتيجية على عدة محاور رئيسة، منها على سبيل المثال، المحور الاقتصادي، والأكثر أهمية فى هذه المرحلة، حيث ضرورة إعادة أعمار ما تم تدميره من البينية الأساسية فى بعض من الأوطان العربية، والمساعدة على خلق فرص عمل، واعطاء حوافز استثمارية معينة للمجالات الاقتصادية الأكثر أولوية. أما المحور السياسي، فيتمثل فى دفع التسوية السياسية الداخلية، ودمج الأحزاب والفرقاء السياسيين، وسن مجموعة من التشريعات التى تساعد على عملية المصالحة، وفتح المجال أمام الحريات السياسية فى إطار الثوابت الوطنية المشتركة لكل دولة. ويضاف إلى ما سبق محاور أخرى عديدة فى مجالات متنوعة مثل المجالات الاجتماعية والثقافية والتعليمية. ثانيا: تفعيل العلاقات الثنائية بين البلدان العربية، وذلك من خلال تبادل الخبرات البرلمانية بين المؤسسة التشريعية المصرية مع نظيرتها من الدول العربية، ليس فقط بين أعضاء مجلس النواب ولكن أيضًا مع الجهاز الإدارى للمؤسسة التشريعية والذى يزخر بخبراء وفنيين على مستوى عالٍ فى عملية التشريع. وهنا، يجب التأكيد بأن الزيارات التى تتم من أعضاء البرلمان للدول الخليجية هو أمر ضروري، ولكن يجب لفت النظر إلى أن هناك زيارات خارجية لبعض الدول العربية لابد أن توضع على أجندة البرلمان عامة، ولجنة الشئون العربية خاصة، للبلدان العربية الأفريقية مثل الجزائر وليبيا وموريتانيا وجيبوتى والصومال وجزر القمر، وذلك لمساعدة الدولة المصرية وهى تبحث عن «الدور والمكانة» فى أفريقيًا. ثالثا: تطوير جامعة الدول العربية، تستطيع البرلمان العربية من خلال اللجان المتخصصة أن تلعب دورًا فى تطوير أداء منظومة العمل العربى المشترك على مختلف الأصعدة، حيث تستطيع السلطة التشريعية أن تمارس ضغطًا على الحكومات وعلى الأنظمة القائمة من أجل دفعها لتطوير آليات العمل داخل الجامعة، وتطوير المنظمات الأخرى التابعة لها. فعلى سبيل المثال، كان البرلمان العربى مجرد فكرة منذ عام 1955 ولم ير النور إلا فى 12 ديسمبر 2012، والآن يناقش البرلمان العديد من القضايا التى تهم الوطن العربى كله، مثل قضايا الإرهاب العابر للحدود والهجرة غير الشرعية والحفاظ على البيئة والثقافة العربية فضلا عن قضايا المياه والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الحقوق المشروع للشعب الفلسطيني، وهو ما يساعد فى النهائية على عملية صنع القرار، وتوجيه وتخصيص المساعدات المالية والإنسانية حسب أولويات القضايا المطروحة. رابعا: رفع قدرات السلطة التشريعية فى بلدان ما بعد الربيع العربي، حيث يستطيع البرلمان المصرى عقد اتفاقيات تعاون ثنائية للتدريب ورفع قدرات النواب والعاملين فى برلمانات بعض الدول العربية التى تحتاج الخبرة المصرية، وهنا يجب التركيز على ليبيا وتونس واليمن والعراق، بحيث يمكن أن تعقد دورات حول طرق التصويت الاليكترونية داخل البرلمان، التطور الذى شهدت الأنظمة الانتخابية الجديدة، والأدوات الرقابية فى مجال المساءلة البرلمانية، ومواثيق الشرف البرلمانية فى الخبرات الدولية. خامسًا: إحياء الثقافة العربية، وذلك لأن حفظ الثقافة بالنسبة للعرب يعنى حفظ الهوية الوطنية والقومية بسواء. ومن هنا، تستطيع «لجنة الثقافة والإعلام والأثار» وغيرها من اللجان، أن يكون لديها عملا نشطًا وهادفًا لأجل تعزيز الارتكاز الثقافى وتوطيده. فضلا عن تأصيل المعرفة كقيمة متصدرة بين القيم التى نعتد بها، وأن يكون لدينا وجهة معرفية تتطور بها مع الزمن إلى ثقافة معرفية بامتياز، قادرة على دعم تنمية وطنية إنسانية، جامعة ومستدامة. القضايا العاجلة كما أن هناك العديد من القضايا لابد أن يتدخل فيها مجلس النواب، بل ويستطيع أن يقوم بدروًا إيجابيًا فيها، منها ما يلي: أولا: ملف العمالة المصرية فى الدول العربية، فهناك ما لا يقل عن 6 مليون مصرى فى الخارج أغلبهم فى منطقة الخليج، وفى ظل التقارب المصرى الخليجي، يستطيع البرلمان أن يقوم بمطالبة بعض الدول الخليجية بإلغاء نظام الكفيل، وإعادة تقنين وضع العمالة المصرية، بل والمطالبة بفتح مزيد من فرص العمل للمصريين فى ظل الخلل الديموغرافى بين السكان والوافدين من البلدان الأسيوية، وهو ما يشكل خطرًا على الهوية العربية الخليجية. ثانيًا: محاربة الإرهاب، وذلك من خلال العمل ليس فقط سن مجموعة من التشريعات لمواجهة الإرهاب ولكن أيضًا توحيد التشريعات العربية فى هذا المجال، ووضع معايير مشتركة لتصنيف الجماعات الإرهابية، وملاحقتها فى كل البلدان العربية بلا استثناء. فضلا عن محاولات توحيد الجهود التشريعية فى إعادة النظر فى القوانين العربية لملاحقة الإرهابيين خارج الوطن العربي، وإن كانت هناك صعوبات لوجود دول عربية تمول وتسلح وتأوى الإرهاب. إنذارات مبكرة ثالثًا: وحدة تشريعية للتنبؤ بالأزمات الفجائية، إذ يستطيع البرلمان المصرى أن ينشئ وحدة للأزمات العربية، ويعمل على التدخل السريع لعلاجها، وأن يقدم مقترحاته فى هذا الشأن، وهنا يقع العبء بالأساس على لجنة الدفاع والأمن القومى والشئون العربية لتشكيل مثل هذا الفريق للتعامل مع مثل هذه الأزمات. رابعًا: المساعدة فى حل المنازعات القائمة: بات على البرلمان المصرى أن يتبوأ دوره فى التدخل فى بعض النزاعات العربية، وذلك للتفاوض بين الأطراف العربية المتنازعة أو لممارسة ضغوط على الأطراف الخارجية، ومحاولة نقل وجهة النظر الشعبية والرسمية فى القضية محل النزاع. وهنا يمكن للبرلمان عبر لجنة العلاقات الخارجية أن تبدأ بالقضية السورية على اعتبارها الأكثر إلحاحًا فى هذه الفترة الحرجة من عمر الدول العربية، ومحاولة تقريب وجهات النظر العربية المختلفة من هذه القضية، والتى مازالت تعكس فى مجملها عجز وضعف النظام العربي. خامسًا: التصدى لمحاولات التدخل فى الأمن القومى العربي، وذلك من خلال تكوين فريق برلمانى عربى من عضوية لجان الدفاع والأمن القومى فى البرلمانات العربية تكون مهمة رصد وتحليل مظاهر التدخلات الخارجية، فضلا عن وضع اقتراحات عملية للتصدى لمثل هذه التدخلات سواء من دول أو جماعات ما دون الدولة. سادسًا: إعادة تأهيل الشباب العربي، وذلك من خلال عقد مؤتمرات للشباب العربى يشارك فيها وفود رسمية شبابية من كل البلدان العربية حول جملة من القضايا المتعلقة بالشباب. وهنا، يمكن أن تلعب لجنة الشباب داخل مجلس النواب المصرى دورًا فى هذا الإطار من خلال التخطيط وتنفيذ مثل هذه المؤتمرات، التى تساعد على إعادة بناء الشباب العربي، فضلا عن نشر الأفكار المتعلقة بضرورة الحفاظ على الهوية العربية على أساس من التعاون والتضامن المشترك، ونشر روح الإسلام الوسطي.