أكبر وأخطر مغالطة إن لم تكن أكذوبة فى مسألة الجزيرتين هى تعمد البعض تقسيم أطراف الحوار والجدل أو الاختلاف والعراك إلى مفرِّطين فى الأرض وإلى متمسكين بها.. وطبعا الأرض هى العرض والشرف والكرامة والوطن والوجود وغيرها! وطبعا أيضا سيظهر المتمسكون بالأرض هم الأجدر بالاستماع إليهم والأحق بالحياة فى الوطن وتقرير حاضره ومستقبله، إذ كيف لخونة يفرطون فى الأرض، أى العرض، أى الشرف والكرامة والوطن، أن يستمع لهم أحد أو أن يعيشوا من الأساس؟! إنها ليست المرة الأولى فى تاريخنا المعاصر، خاصة بعد عام 1952.. أى بعد ثورة يوليو، إذ رغم أن التاريخ لا يعيد نفسه ولا يتكرر إنما تتشابه أحداثه أحيانا وتتماثل دروسه أحيانا أخرى، لأن الجدل نفسه والتقسيم ذاته تقريبًا حدث عند مفاوضات الجلاء، واحتدم بعد توقيع الاتفاق وإعلانه عام 1954، وانهال النقد والتجريح والسباب والتخوين على جمال عبدالناصر والضباط الأحرار، ولم يلتفت الذين تحول كل واحد فيهم إلى نموذج للوطنية والشرف- واعتبر نفسه فيلسوف عصره وحكيم زمانه وعالم علماء عصره فى القانون والدبلوماسية- إلى الجهد الذى بذله ناصر ومن معه من خبراء وعلماء وأعضاء فى وفد التفاوض، ولا التفتوا إلى الظروف الموضوعية التى حكمت مناخ التفاوض، وإلى آخر ما يتصل بمسألة متخصصة دقيقة. كان جمال عبدالناصر رئيسا لمجلس الوزراء آنذاك، ورئيسا للوفد المصرى فى التفاوض، ومعه فى الوفد عبدالحكيم عامر وعبداللطيف البغدادى وصلاح سالم ومحمود فوزي. واشتملت الاتفاقية على ثلاث عشرة مادة، ولها ملاحق ومرفقات وانصب الانتقاد والهجوم على المادة الثانية عشرة التى نصت على ثلاث نقاط. الأولى: يظل هذا الاتفاق نافذا مدة سبع سنوات من تاريخ توقيعه، والثانية: تتشاور الحكومتان خلال الاثنى عشر شهرا الأخيرة من تلك المدة لتقرير ما يلزم من تدابير عند انتهاء الاتفاق، والنقطة الثالثة: ينتهى العمل بهذا الاتفاق بعد سبع سنوات من تاريخ التوقيع عليه، وعلى حكومة المملكة المتحدة أن تنقل أو تتصرف فيما قد يتبقى لها وقتئذ من ممتلكات فى القاعدة ما لم تتفق الحكومتان المتعاقدتان على مد هذا الاتفاق! وكانت المادة الرابعة هى الأخرى مثارا للتخوين، لأنها نصت على أنه: «فى حالة وقوع هجوم مسلح من دولة من الخارج على أى بلد يكون عند توقيع هذا الاتفاق طرفا فى معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية الموقع عليها فى القاهرة فى الثالث عشر من إبريل سنة 1950 أو على تركيا تقدم مصر للمملكة المتحدة من التسهيلات ما قد يكون لازما لتهيئة القاعدة للحرب وإدارتها إدارة فعالة، وتتضمن هذه التسهيلات استخدام الموانئ المصرية فى حدود ما تقتضيه الضرورة القصوى للأغراض سالفة الذكر». انصب الهجوم وأشهر سلاح التخوين ضد عبدالناصر ورفاقه على أساس أنهم لم يطردوا المحتل البريطانى شر طردة ودفعة واحدة وأنهم فرطوا فى الأرض المصرية بموافقتهم على عودة بريطانيا إلى القاعدة وإلى الموانئ المصرية! ومضت الأيام وحدث أن طردت بريطانيا ليس فقط من مصر وإنما من تاريخ الدول الإمبراطورية بعد العدوان الثلاثى عام 1956. وكان المثال الآخر الذى اشتعل فيه العراك واستخدم سلاح التخوين - وربما مازال الاشتعال مستمرا فى أذهان البعض إلى الآن- هو الاتفاقية التى أبرمتها مصر لتقرير مصير السودان، على أن يسبقه قيام الحكم الذاتى الكامل فى السودان فورا. كان ذلك فى نوفمبر 1952، وعندها قرر جهابذة الوطنية والحكمة والعلم آنذاك أن ثورة يوليو فرّطت فى التراب المصري، باعتبار السودان أحد الأملاك المصرية، وأن عبد الناصر خائن لأنه وافق على تقرير السودانيين لمصيرهم، وإلى الآن هناك من لا يتردد ولا يتورع عن إرجاع أى مشكلة بين مصر والسودان الآن إلى تفريط يوليو وخيانة عبد الناصر! وينسى كل هؤلاء الجهابذة قديما وحاليا أن يوليو وناصر نادوا بحق الشعوب فى تقرير مصيرها، وأن حرية الأوطان لا تنفصل عن حرية الشعوب، وأن ناصر لمع فى كل العالم وخلال حقبتين متصلتين لأنه كان من رواد التحرر الوطني، وأن مصر وقفت إلى جانب شعوب العالم الثالث فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية! وأعود إلى قضية جزيرتى صنافير وتيران، وأتوقف ثانية أمام منظرى وحكماء توزيع صكوك الوطنية على أساس التمييز بين المفرطين وبين المتمسكين. وأتجه - فى سابقة نادرة - إلى إهمال شخوص وسطور وادعاءات الذين بادروا إلى التهجم- ومنهم من ادعى أنه الفيلسوف الذى نفى كل الفلاسفة عبر التاريخ وأودعهم قمقم النسيان- لأن التركيز الآن فيما أرى يجب أن ينصب على أمرين، الأول: هو أن يؤدى مجلس النواب دوره فيما يتصل باتفاق ترسيم الحدود البحرية المصرية- السعودية أداء سليما تتوافر له وفيه كل معايير الدقة ليأتى قراره صحيحا، والثاني: هو العمل على تلافى أى آثار سلبية تؤثر على علاقتنا بالمملكة العربية السعودية وأشقائنا العرب فى دول مجلس التعاون الخليجي، لأن الحصار المضروب من حولنا غربا وشمالا وشمالا بشرق وجنوبا يحتم علينا أن نحافظ على علاقتنا بالجار الشرقى المباشر الذى لم يتردد عن الوقوف معنا فى أحلك اللحظات، ليس فقط من أجلنا ولكن لأنه يدرك أن انهيار مصر يؤدى عاجلا أو آجلا إلى انهياره هو الآخر، وفى هذا تفاصيل هائلة ليس هذا مجالها. إن القضية ليست بين التفريط وبين التمسك، وليست بين الخيانة وبين الوطنية، ولكنها بين التقدير الخاطئ وبين التقدير الصحيح، أولهما يفتقد الاستناد إلى مسوغات واضحة متعددة الجوانب، وثانيهما يستند استنادا قويا عليها، وهو ما يصدق على مسألة الحدود وعلى مسألة المصالح والعلاقات المصرية العربية والدولية. لقد أبرم ناصر اتفاقية الجلاء ومن قبله أبرم النحاس المعاهدة، وتكفل الزمن بأن تتجاوز مصر ما لم يكن فى صالحها. لمزيد من مقالات أحمد الجمال