صدق أو لا تصدق.. فى ألمانيا شيء اسمه "المادة 103 من قانون الجنايات" التى تنص صراحة على فرض عقوبة السجن ثلاث سنوات أو الغرامة لمن يوجه سبابا لممثل دولة أجنبية! وهذه الأيام، ثارت أزمة كبيرة بين تركياوألمانيا بسبب إعلامى ألمانى ساخر تهكم على الرئيس التركى رجب طيب إردوغان بصورة سافرة، مما أثار غضب "السلطان" التركى الذى أصر على تقديم هذا الإعلامى إلى المحاكمة فى ألمانيا، وبعد شد وجذب، وافقت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل - على مضض - على الاستجابة لطلب إردوغان وتقديم الإعلامى سبب المشكلة إلى المحاكمة، بموجب المادة 103 جنايات! الحكاية بالتفصيل بدأت منذ منتصف مارس الماضي، عندما بث التليفزيون الألمانى أغنية تسخر من الرئيس التركى بسبب سياساته القمعية ضد وسائل الإعلام والقيود التى تفرضها حكومته على الحريات العامة .. وهذا أمر "مفهوم". وبعد ذلك بيوم أو يومين، وجهت الحكومة التركية انتقادات شديدة اللهجة إلى حكومة برلين لسماحها ببث أغنية كهذه تسخر من رئيس دولة "صديقة" لألمانيا .. وهذا أيضا "مفهوم". وفى أوائل أبريل الحالي، ألقى الإعلامى الألمانى الساخر الشهير يان بومرمان قصيدة هزلية فى برنامج بثته شبكة "إن تى فى نيو" العامة تضمنت سخرية أشد وطأة من إردوغان، حيث استخدم فيها إيحاءات جنسية تشمل أطفالا وحيوانات! ثارت ثائرة إردوغان شخصيا، وتقدمت الحكومة التركية ذات نفسها بطلب رسمى إلى الحكومة الألمانية بضرورة محاكمة هذا الإعلامى الهزلى الذى تطاول على "السلطان العثماني" الذى أصاب أوروبا كلها بالجنون خلال الأشهر الماضية بسبب قضية المهاجرين. أيام قليلة مرت على ألمانيا وهى تدرس الطلب التركى بتأن، وسط توقعات من أغلبية المراقبين بأن ترفض برلين الاستجابة لطلب إردوغان، التزاما بالدفاع عن مبدأ حرية التعبير المكفول فى ألمانيا، وبخاصة بعد حملة التضامن الكبيرة من الإعلاميين والمثقفين والمواطنين الألمان مع بومرمان فى مواجهة تركيا "القمعية"! ولكن، ميركل، فاجأت الجميع أمس الأول - الجمعة - بإعلانها الموافقة على طلب تركيا بمباشرة ملاحقات جنائية ضد بومرمان بموجب القانون الألماني، لكنها أكدت فى الوقت نفسه عزمها على إلغاء بند القانون الذى يجيز هذه الإجراءات، وهى المادة 103 جنايات. وقالت ميركل فى مجمل تبريرها للقرار إنه بمعزل عن هذه القضية، فإنها تتعهد بالعمل على إلغاء المادة 103 جنايات بحلول عام 2018. وإلى جانب قضية إهانة ممثل دولة أجنبية، أقام إردوغان شكوى ثانية فى قضية "إهانة" أيضا، ولكن ليس بصفته رئيس دولة أجنبية، بل مجرد فرد. كما حاولت تجميل صورتها بقولها إن إعطاء الموافقة على بدء الملاحقات ضد الإعلامى الألمانى لا يعنى إطلاقا أنها تعتبره مذنبا، وأضافت أنه فى دولة القانون، لا يعد إعطاء الموافقة على ملاحقات جنائية فى جريمة شتم هيئات أو ممثلين من دولة أجنبية تحديدا، إدانة مسبقة للأشخاص المعنيين ولا قرارا بشأن حدود حرية الفن والصحافة والرأي، معتبرة أن "المدعين والمحاكم ستكون لهم كلمة الفصل فى النهاية". وفسر البعض موقف ميركل بأنه رغبة منها فى عدم تسميم العلاقات الألمانية التركية فى وقت فرضت فيه أنقرة نفسها كشريك أساسى للاتحاد الأوروبى من أجل احتواء تدفق المهاجرين إلى دول القارة الأوروبية. وقد دافع فولكر كاودر رئيس الكتلة البرلمانية للتحالف المسيحى عن قرار الحكومة، قائلا : "يجوز السخرية من كل شيء، لكن ليس كل إهانة تعتبر سخرية .. فالحدود الفاصلة فى ذلك تحددها المحاكم فى دولتنا القانونية .. لذلك، أرى أن الحكومة الألمانية تصرفت على نحو سليم فى هذا الأمر". ولكن الرافضين لتصرف ميركل وحكومتها كانوا أكثرية بطبيعة الحال، باعتبارا أنهم فوجئوا بحكومة بلادهم تنفذ قانونا أقل ما يقال عنه إنه قد يثير اعتراضات وإدانات من ألمانيا نفسها إذا تم تطبيقه فى دولة أخرى. فقد اعتبر توماس أوبرمان رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكى الديمقراطى - الشريك فى ائتلاف ميركل الحاكم - أن قرار الحكومة خاطيء، وقال إن مقاضاة السخرية بتهمة "العيب فى الذات الملكية" لا تتوافق مع الديمقراطية الحديثة، بحسب تعبيره. كما انتقد حزب الخضر الألمانى المعارض القرار، وقال رئيسه جيم أوزدمير إنه ليس سعيدا بالقرار، وطالب هو الآخر بإلغاء المادة رقم 103 من قانون العقوبات الخاصة بإهانة رئيس دولة أجنبية. والطريف أن الجالية التركية فى ألمانيا نفسها انتقدت قرار الحكومة الألمانية، حيث قال رئيس الجالية جوكاى صوفو أوغلو فى تصريحات لصحيفة "برلينر تسايتونج" الألمانية : "أرى القرار خاطئأ .. كنت أتمنى ألا تسمح المستشارة بهذا الإجراء، بل كان يتعين انتظار الإجراء الشخصي"، مشيرا إلى أن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان تقدم بالطلب بصفته الشخصية، موضحا أنه كان ينبغى ترك الوضع على هذا النحو. أما القناة الثانية فى التليفزيون الألمانى "زد دى إف"، فكانت أقرب إلى الواقع عندما رأت أن قرار الحكومة الألمانية "مسيس". .. ولا تعليق!