من تجليات الإبداع الإلهى والتكوين المعجز لطبيعة الإنسان: تنوع أعراقه ولغاته وألوانه وأجناسه، وهى آيات مشهودة أرشد إليها قوله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» [الروم: 22]. وما تنوعت هذه الصفات إلا بانتشار أفراد الإنسان فى مناطق الأرض التى جعله الله تعالى خليفة فيها، ومن ثَمَّ تطرق هذا التغير إليهم تطرقًا تدريجيًّا مع ارتقاء المعارف وبناء الحضارات. مما استوجب التمييز بين مناطق الوجود والنفوذ خشية الاختلاط وحماية من الدخلاء، ومن ثَمَّ فإن ظاهرة اتخاذ الحدود والفواصل ترتبط بالمِلْكية ارتباطًا تاريخيًّا وثيقًا، سواء أكان هذا التملك فرديًّا أم جماعيّا، ففى الملكية الفردية تقوم الفواصل بتمييز الملكيات الخاصة عن الأخرى، وكذا الأمر حاصل فى الملكية الجماعية التى تقوم عليها الشخصية الاعتبارية الممثلة فى السلطة العليا لهذه المناطق بالنسبة للملكيات الأخرى. وقديمًا كانت تعرف الحدود ب «التخوم»، وهى ظاهرة قانونية يكثر فيها الاعتماد على الخصائص الجغرافية التى كان الإنسان يعتبرها عوائق طبيعية كالصحارى والجبال والأودية والأنهار بمجاريها وضفافها، وهى أشد ثباتًا وأوفر وجودًا وأكثر حماية، كما أنه كان يقيم فواصل صناعية كبناء الأسوار وحفر الخنادق. ولقد اعتبر الشرع الشريف الحدود وناط بها الأحكام الشرعيَّة، حيث رسَّم حدود حرم مكةالمكرمة وحرم المدينةالمنورة. كما شهد النبى صلى الله عليه وسلم بالاعتبار لاتخاذ الحدود الفاصلة بين مناطق النفوذ، معتبرًا إياها بمنزلة الحمى المحرَّم الذى لا ينبغى الاقتراب منه، فضلا عن انتهاكه والتعدى عليه، وذلك فى قوله صلى الله عليه وسلم فى بيان واقع مَنْ يقع فى الشبهات: «من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام، كالراعى يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى.. الحديث». وكذلك اعتبر علماء المسلمين هذا الواقع الظاهر فى الأحكام الشرعيَّة، خاصة فى الجوانب السياسية التى تحدد العلاقات بين الدول سلمًا أو حربًا، فنجد تشريع عقد الأمان الذى هو عهد شرعى وعقد قانونى يوجب لمن ثبت له حرمةَ نفسه وماله، ويُطلق على من أُعطِيَ هذا الأمان مصطلح «المستأمَن»، وهو فى اصطلاح الفقهاء: «من يدخل إقليم غيره بأمان مسلمًا كان أم حربيًّا». وحكم المستأمن: هو ثبوت الأمان له ووجوب الحفاظ على نفسه وماله وعرضه، شأنه فى ذلك كشأن أهل البلد ومواطنيها، فإذا وقع الأمان من الإمام أو من غيره للمستأمَن وجب على المسلمين جميعًا الوفاء به، فلا يجوز قتله، ولا أسره، ولا أخذ شيء من ماله، ولا التعرض له، ولا أذيته. ويتخرج على ما مرَّ فى عصرنا الحاضر التنظيمات والإجراءات المتبعة فى السفر والتنقل بين البلاد رسميًّا، ومن بينها تأشيرة الدخول أو المرور، وهى تقتضى بذاتها للحاصل عليها فى المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية الإذنَ بدخول البلاد والأمنَ على النفس والمال. وعقد الأمان يقتضى الاستئمان لطرفى العقد وأن كلاًّ منهما جعل الآخر منه فى أمان، فكما أنه لا يجوز الغدر بغير المسلمين متى دخلوا بلاد الإسلام مستأمَنين، فكذلك الحال بالنسبة للمسلم إذا دخل بلاد غير المسلمين بتأشيرة دخول ونحوها فإنه يكون مستأمَنًا، ولا يجوز له حينئذ أن يقوم بأى انتهاك لحرماتهم أو تَعَدٍّ عليهم؛ ودماؤهم وأموالهم وأعراضهم عليه حرامٌ ولو تعدَّى على شيء من ذلك كان غدرًا وخيانة منه؛ لأنهم لم يُعطُوه إياها إلا بشرط ترك خيانتهم وأمنهم على أنفسهم منه. وفى ذلك تقرير لضرورة مراعاة النشأة السياسية للحدود وملاحظة التطور فى ماهية هذه الظاهرة وأسبابها، التى أصبحت تمثل فى عصرنا الحاضر عصبًا رئيسًا فى استقلال الدول وتحديد العلاقات الإستراتيجية بين الدول بعضها ببعض إيجابًا وسلبًا، حربًا وسلمًا؛ فالمشكلات الحاصلة بسبب الحدود تؤدى من أقرب طريق إلى إشعال فتيل الأزمات وإثارة التوتر والاحتكاك، وهو ما قد يطول أعوامًا مديدة دون حلول جذرية فى أغلب الحالات! وفى قوله صلى الله عليه وسلم «لكل مَلِكٍ حمى» إشارة إلى أن ضبط الحدود من مهام واختصاص رأس الدولة، وقد روعى ذلك فى نظام الدولة الحديثة الذى جعل الأمور المتعلقة بالحدود ترسيمًا وتنظيمًا بيد الإدارة العليا للدولة مشاركةً مع المؤسسات والجهات المضطلعة بواقع الأمور، حربًا وسياسة وواقعًا؛ لأن هؤلاء هم مَنْ بيدهم مراعاة حساب المآلات والنتائج والمصالح والمفاسد المتعلقة بالاعتبارات الإقليمية والمعاهدات الدولية ومعرفة موازين القوى العالمية، وفق موازنات خاصة ودراسات دقيقة تهدف إلى تحقيق الحفاظ على الأمن ورعاية مُقَدَّرات الدولة ومصالحها ومكتسبات شعبها عبر التاريخ، والتنازل عن أى جزء منها لا يجوز إلا وفق آليات مشددة. (ينظر المادة 151 من الدستور المصري). ولا ريب فإن فى إدراك جملة المعانى التى قررناها ترسيخا لمعالم الدولة الحديثة وحماية مقدراتها ومكتسباتها وحدودها فضلا عن تأمين أفرادها. لمزيد من مقالات د شوقى علام