الحديث عن وحدة الثقافة الأفريقية لا يُبنى على مقارنة مع وحدة الثقافة الأوروبية، والمركزية الأفريقية لا تتحقق مقابل المركزية الأوروبية، فأخطر ما تعرضت له الثقافة الأفريقية تأويلها سياسيا، وهو ما أدى إلى الفصل الثقافى فى أفريقيا إلى شمال وجنوب، وبدلاً من الركون إلى وحدة ثقافية، لجأ السياسيون إلى المنظمات السياسية كمعبر عن تلك الوحدة، ولا يمكن الحديث عن مركزية ثقافة ما ووحدتها فى ظل الفصل الثقافى والحضارى لهذه الثقافة إلى منطقتين، أفريقيا جنوب الصحراء، وشمال أفريقيا، وهو ما تطور بسبب الصراعات السياسية إلى ربط ذلك الفصل بالهوية واللغة والدين داخل الجماعة الواحدة. إن فصل الهوية السياسية لشمال أفريقيا عن الهوية السياسية لأفريقيا جنوب الصحراء، استتبعه فصل للهوية الثقافية، فتاريخ الثقافة الأفريقية الوحيد الذى لم يرتبط فى أى مرحلة بأجندة أو أيديولوجيا سياسية معينة يسعى لتطبيقها، فقد كان تاريخا للتحرر والنضال والدخول إلى عالم الحداثة ومابعدها. المركزية الأفريقية وقد تم وصم الأفارقة بعد الاستقلال وإلى نهاية الحرب الباردة بأنهم شعوب تعيش فى زمن ما قبل الحداثة وعاجزة عنها، ولا يمتلكون قدرة إبداعية باعتبار الغرب نواة الحداثة وبالتالى لا يمكن للمركزية الأوروبية أن تسمح للذين استعمروهم أن يقفوا معهم فى نفس اللحظة من التاريخ والتطور الحضاري، ووضعت دائما مصر وإثيوبيا فى دائرة الشرق التى فضلتها الأدبيات الأوروبية فى رؤيتها للعالم بين غرب وشرق، فى النقاشات التى تدور حول أصول الحضارة والإسهامات العالمية فيها، اغفالاً للانتماءالأفريقى لهما باعتبار بقية القارة غارقة فى ظلام وتعيش خارج التاريخ، وأثرت ازدواجية الشرق والغرب هذه على رؤية أفريقيا لذاتها باعتبارها مركزية ضائعة وسط هذا الثنائى المتصارع، ووسط الأعمال الفكرية فى كلا الاتجاهين خاصة أعمال المستشرقين والرد عليها. ولا يمكن إنكار دور صياغة « تقاليد علم المصريات « بواسطة نمط التفكير الغربى مابعد الوطنى فى رفضه الهوية التاريخية الأفريقية لمصر القديمة، فاعتبار الحضارة السوداء مقابلا للحضارة الغربية اعتمادا على دمج مصر القديمة وبالطبع إثيوبيا جزء منها يخلق تواصلاً تاريخيا يعبر عن الهوية الأفريقية باعتبارها هوية لون، فتعمد الغرب تحديد وتعريف أفريقيا بأنها الأرض جنوب الصحراء، رغم القبول الغربى لوحدة الثقافة الأوروبية لكل الشعوب ذات الأصل الأوروبى بغض النظر عن موقعها الجغرافي، ورفضه نفس المنطق عند الحديث عن وحدة الثقافة الأفريقية، يطرح سؤال حول وصف العديد من أشكال التعبير السياسى ثقافيا بالتقليدى أو العرفى أو القبلى فى محاولة لإصباغ صفة المحلية الثقافية وحصرها فى إطارها المحدود والضيق؟ فكيف يمكن للمركزية الأوروبية التى أنتجت الكولونيالية الحديثة أن تقبل وفق أسلوب التفكير الغربى فكرة أن اليونان باعتبارها مرجعية حضارية قديمة لأوروبا كانت مستعمرة مصرية تدين بتاريخها لتلك الحضارة الأفريقية، وهو ما يفسر الهجوم الشديد الذى لاقته أعمال كل من حاول فتح النقاش العلمى فى هذا الاتجاه أمثال الشيخ «أنتا ديوب» و«مارتن برنال»، واعتبار أعمالهما جزءا من دراسات المناطق غير المنضبط، ورفض قبولها فى سياق الأعمال الفكرية الأساسية، وانبرى علماء المصريات بالهجوم الشديد عليها وتفنيدها وفقا لنفس الأسلوب فى التفكير الذى يتجاهل الآن كل الكشوف والحفريات التى يقوم عليها الأفارقة ومن يتعاون معهم للحضارة الأفارقة، فأقسى ما يمكن أن يتحمله العقل الكولونيالى هو فكرة أن ما يدرسه هو حضارة أفريقيا، حتى فى رؤية « كارل ماركس» لمركزية أوروبا والتفسيرات الرئيسية لتقدم الغرب، فالتقدم المفضى إلى أوروبا الإقطاعية ثم إلى أوروبا الرأسمالية، ثم الاشتراكية وبلوغ الشيوعية، يقابله الشرق الذى لا أفق لديه لتنمية ذاتية تقدمية ولا سبيل لإنقاذه إلا بواسطة الإمبريالية الرأسمالية، وصولاً لرفضه الدور الحضارى لمصر القديمة واعتباره اليونان القديمة فقط ينبوع الحضارة، متجاهلاً تماما الوجود الأفريقي، ويمكن فهم تلك الرؤية فى إطار تطور نظرة أوروبا للعالم بعد انتهاء فترة الحروب الصليبية، وبداية عصر الرحلات الاستكشافية، والناتجة عن رؤية أوروبا المسيحية للشرق وانعكست على رؤيتها لأفريقيا متمثلة فى الرحلات التبشيرية وخطاب الدور الحضارى ورسالة الرجل الأبيض، التى اتسمت بالجشع والاستيلاء على الموارد الفكرية والمادية للحضارات الأخري، خصوصا فى ظل التطور الصناعى وارتباطه بالموارد الأفريقية. ولا تهدف هذه المحاولة لنقض صورة الحضارة الغربية باعتبارها مستقلة ومتقدمة ونقية مقابل صورة الحضارة الأفريقية باعتبارها تابعة وسلبية وجاهلة، إنما تهدف لإعادة رؤية التطور الحضارى لأفريقيا كوحدة واحدة فى ظل سياقها العالمى مما يطور مركزية أفريقية لنفسها، حيث كان لأفريقيا وجود لنفسها وليس وجوداً فى حد ذاته وفقا للتحليل الماركسى للاختلافات بين البروليتاريا والشرق، حيث مثَّل الوجود فى حد ذاته عنده تصورا سلبياً بينما الوجود لنفسه مثل ميلاً إيجابياً نحو التحرر، وبالتالى تهدف لتجنب الانطلاق من مركزية أوروبية أو مركزية شرقية لرؤية مركزية أفريقيا فى سبيل تطوير رؤية مركزية أفريقية. إن فرضية انتشار الإسلام على سبيل المثال - فى أفريقيا كدين عقلانى يؤكد أن تلك البيئة التى انتشر فيها يجب أن تكون متطورة بما يكفى لقبول ذلك الدين، وليس مجرد قبوله، بل الإسهام الفكرى فيه باعتبارها مكونا وجزءاً أصيلاً منه، وليس أدل على ذلك من انتشار الحرف العربى واستخدامه، ومخطوطات تمبكتو شاهداً قائما على ذلك، ليس فقط كلغة للقرآن، بل أداة تعبير واتصال للغات الأفريقية، سواء كان المحتوى دينيا أو ثقافيا أو اقتصادى. فبناء مركزية أوروبا على خصائص تتعلق بأصالتها وساميتها وأنها نمت بشكل مستقل وذاتى بفضل عقلانية الغرب العلمية وابداعه وتفرده والمنطق الذى يحكم تفكيره وبفضل الخصائص التقديمة والرأسمالية التى تحكم طبيعته، فى مواجهة مركزية أفريقيا التى بنيت على أنها جاءت لمواجهة الكولونيالية وأنها تابعة ونتيجة مباشرة لإيجابياتها وسلبياتها، لهو بناء مضلل يناقض التاريخ الحضارى ومرجعيته لكل منهما، فسمات التفكير الكلاسيكى الغربى المعتمد على الاستبعاد والفصل تقابلها سمات التفكير الأفريقى القائم على الاستيعاب والاندماج، فانتشار المسيحية والإسلام فى أفريقيا وانتشار اللغة العربية والحرف العربي/العجمى كثقافات نوعية يمثل استيعابا حضاريا للروافد الجديدة والمتنوعة فى سياق التطور التقليدى للأمم، وهو دليل قوة حضارة أفريقيا وتطورها ومركزيتها وجوهرها، وهو ما لايمكن قياسه بطبيعة الثقافة الأوروبية ومركزيتها المتمحورة على الذات واستبعاد الآخر. ويظل السؤال الذى يطرح نفسه فى هذا النقاش حول جدوى محاولة بناء فهم للجدل حول مركزية أوروبا وعدم مركزية أوروبا أو مركزية أفريقيا ضد مركزية أوروبا أو ضد عدم مركزية أوروبا، وهذه الإشكالية تدفعنا إلى فهم ثقافة أفريقيا ومركزيتها فى إطارها، وقبول أفريقيا لمنطق التراكم الحضارى مقابل الغرب الذى تطور حضاريا بمعزل عن الشرق، وذلك يأتى من موقف ضعف مقابل موقف مركزى أوروبى متفرد من عدمه.