الثقافة الأفريقية غنية ومتنوعة، تعكس ثراء الشعوب وتاريخها، وقد نشأت الحضارة فى أفريقيا وإليها تدين بأصولها، ففى أفريقيا وقبل أن يعرف بوجودها الأوروبيون بقرون طويلة، نشأت المؤسسات والتقاليد الاجتماعية المعقدة والمتطورة، وتقدمت فيها الفنون والتخصصات المهنية والعلمية المختلفة فى علوم شتى، وعندما استعمر الأوروبيون أفريقيا، هدفوا لقمع ثقافة الشعوب الأفريقية وأجبروها على الاندماج فى ثقافتهم الاستعمارية، وبالتالى كانت الهوية الثقافية عاملا رئيسيا فى حركات التحرر الوطنى منتصف القرن العشرين، فالذاكرة الجماعية للشعوب لا يمكن تدميرها، فبالرغم من ويلات الاستعمار والاستعمار الجديد فإن المؤسسات والتقاليد الأفريقية لا تزال على قيد الحياة تنتقل من جيلٍ إلى جيل. والآن تشهد جميع أنحاء أفريقيا انفجارا فى الانتاج الثقافى من مختلف الأنواع، فى الموسيقى والغناء والرقص والمسرح والشعر والسينما والتصوير الفوتوغرافى والفنون الجميلة والروايات وغيرها، فقارتنا تشهد تدفقا هائلا لقواها الخلاقة التى تعبر عن أصالتها بقدر التنوع الذى تشمله، فظهور هذا الانتاج وغيره أصبح عنصرا أساسيا فى نسيج أفريقيا المعاصرة، وأصبح أكثر من غيره يمثل الجانب المرئى للإنتاج الثقافى فى أفريقيا، فأفلام الكرتون والكاريكاتير احتلت الفضاء العام، آخذة مكانة جديدة وقوية مغلفة بروح الاحتجاج والمقاومة ضد السلطة، بل مثلت الأفلام الكوميدية الشعبية التى تفضح حقيقة ظروف الناس ومعيشتها موجة جديدة ومحبوبة، وهكذا بدت خطوط الانتاج التقليدية والقديمة للثقافة فى التراجع، وظهرت غيرها أكثر جدلا وسرعة واتصالا. تهدف المقدمة هذه لنقل صورة التطور الذى تشهده أفريقيا حاليا، والذى يجعل انتقال الثقافة الأفريقية عبر وسائل الاتصال الحديثة خاصة التواصل الاجتماعى، بديلا عن وجود أفراد، طبقة أو نخبة أفريقية تقوم بهذا الدور فى نقل الثقافة الأفريقية أو صنعها فى مرحلة ما، على غرار الدور الذى لعبه الرواد الأوائل ودعاة الجامعة الأفريقية، والوعى الأسود وتيار الزنوجة أمثال «ويليام ديبوا» (1868 - 1963) و«فرانز فانون» (1925 1961) و«ايميه سيزار» (1913 - 2008) و«ليوبولد سنجور» (1906 - 2001) و«أمليكار كابرال» (1924 - 1973) وغيرهم، وتأتى أهمية دراسة الثقافة الأفريقية اليوم فى ظل ما يشهده العالم من خلق سوق للثقافة والانتاج الثقافى وتسليعها، فالشركات متعددة الجنسيات تسعى للسيطرة على حقوق التأليف والنشر واحتكار حقوق الملكية الفكرية وكافة الحقوق المتعلقة بالانتاج الثقافى، فدراسة الثقافة الأفريقية والانتاج الثقافى الأفريقى فى هذه البيئة، يتيح ضمن العديد من الأشياء الوصول إلى المفاهيم، واستكشاف الأبعاد التاريخية والسياسية للثقافة الأفريقية، وليست هذه المحاولة على غرار التى جرت فى أفريقيا ما بعد الاستقلال، حيث كان على أفريقيا إعادة استكشاف وتعريف نفسها وثقافتها، فما تقدمه الثقافة الأفريقية أكثر من مجرد بناء طريقة للحياة فى العالم مكونة من أفكار ووعى، إن عمل الثقافة أهم من تأثير الثورة فى حياة الشعوب، فالثقافة الأفريقية المعاصرة ليست نتاج ثورة فكرية أو سياسية، بقدر ما بعثتها حركة التحرر الوطنى فى القرن العشرين ومثقفى الشتات فى العالم الجديد، فلم يكن المطلوب إحياء ثقافة اختفت، أو إنعاش ثقافة فى سبيل الاختفاء فى ظل ظروف حديثة تجعلها مستحيلة، بل إنماء ثقافة معاصرة من الجذور القديمة التى تمتد إلى الحضارة المصرية القديمة كركيزة تاريخية، وإذا كانت الصبغة السياسية للثقافة الأفريقية فترة التحرر الوطنى فى ذلك الوقت هى نقطة الانطلاق التى بنيت عليها الهوية لدى الشعوب المحررة، فإن الفنون والآداب والفلسفة والدين كثقافات نوعية داخل الثقافة الأفريقية كانت تلك الجذور القديمة التى نبتت منها الصبغة السياسية التى بعثت تلك الثقافة وحركتها سواء داخل أفريقيا، أو فى نفوس المثقفين الأفارقة فى الشتات. لقد كان خطاب حركات التحرر الوطنى يدعو إلى التحرر من ثقافة المستعمر وقيمه الأخلاقية، رافضاً، وجود الفرنسى الأسود او الإنجليزى الأسود كبديل عن وجود الأفريقى كأفريقى فقط، ورفض اعتبار خطاب السياسة والاقتصاد وحقوق العمل والمسألة الفلاحية خارج سياق طلب الثقافة، ورفض الفرض القائم على أن الاستعمار قد فرض ثقافته الأعلى على ثقافتنا الأدنى، بل كان فرضاً لثقافة أجنبية بوسائل شتى على ثقافة أصلية، واعتبر أنه لا ثقافة حقيقية فى أفريقيا بدون حرية، فالبناء السياسى لأمة ما يؤثر فى ثقافتها، وهو بدوره يتأثر بتلك الثقافة بينما فى أفريقيا كانت الثقافة سابقة على البناء السياسى للدولة الحديثة، وبالتالى تأثرت الدولة بالثقافة أكثر مما أثرت فيها، وكان أخطر ما تعرضت له الثقافة الأفريقية هو تسييسها، وفهمها وتفسيرها وفقا للبناء السياسى للدولة الحديثة، وبدلاً من النظر إليها كونها معبرا عن حضارة، نظر إليها باعتبارها ثقافة هؤلاء الشعوب ذوى الصفة السياسية، حيث تصدر خطاب السياسة فيما بعد الاستقلال على وجه التحديد، فلا يمكن قراءة تاريخ الكولونيالية فى أفريقيا أو دولة ما بعد الاستقلال باعتباره ممثلاً لتاريخ الثقافة الأفريقية. إن المؤثرات التى أحدثتها الكولونيالية فى شعوبنا خرجت عن كونها استخدام لنفس لغتها وثقافتها وأدواتها لمواجهتها، بل كانت استخراج أشكال من ثقافتنا الأصلية، وما واجهته تلك الثقافة الأصلية أنها عبرت مرحلة التقليدية التى كان العالم يمر بها إلى مرحلة التقدم والحداثة التى توجد عليها الثقافة الكولونيالية، مع اختلاف الطابع المادى والمتطور الذى توجد عليه، فقد كانت الثقافة الأفريقية قادرة على مواجهة الاستعمار وانتاج نماذج متنوعة للمواجهة والنضال، واليوم تمثل الاكتشافات والبحوث الأركيولوجية التى تجرى فى العديد من المواقع فى أفريقيا المنبع الأكثر ثراءا للتراث والحضارة فى العالم. فاكتشافات مخطوطات تمبكتو على سبيل المثال، تمثل نموذجا للإنتاج الفكرى العلمى فى أفريقيا ماقبل الاستعمار، فحقيقة أن جزءا كبيرا من تلك المخطوطات تعود إلى بداية الألفية الثانية، وأنها كانت منتشرة وموزعة ومحفوظة فى آلاف المكتبات الخاصة والعامة، وفى سراديب وبيوت طينية وفى كهوف الصحراء، كفيل بتبيان ما تعرضت له مواد الثقافة الأفريقية، إما من تدمير، أو سرقة، أو إهمال، أو تأويل فى أفضل الأحوال.